بيت الأشباح

بيت الأشباح
أدب الرعب

الاثنين، 12 يوليو 2010

القصة الحقيقية لقطع فان كوخ لأرنبة أذنه

عالم فان كوخ




كأنه لهبٌ إندلع من المجهول
1700 لوحة حصيلة حياة فان جوخ الفنية



تأليف : روبرت والاس
ارتبط اسم الفنان العالمي الهولندي فان كوخ بالحادثة الشهيرة التي تعكس تطرفه، أو جموحه في الحب، حينما قطع أرنبة أذنه وقدمها للمرأة التي عشقها، وفي هذه القصة الكثير من المبالغة إذ ان قطع أذنه تلا خلافاً حاداً بينه وبين الفنان بول غوغان حينما كانا يقيمان في النزل نفسه في آرل بجنوبي فرنسا، ونتيجة لانفعاله قام بقطع ذلك الجزء من أذنه وقدمه إلى المرأة التي كان يحبها.
هذه الحادثة غطت على شهرته وعبقريته كفنان مبدع عاش حياته معذباً بمشاعره وأفكاره التي كان يحكمها التطرف غالباً. وتكمن عبقرية هذا الفنان في أسلوب تفعيل وتصوير ما تراه أعماقه أو تشعر به في سرعة قياسية، وتعكس اللوحات جميع تلك الانفعالات وشحنات الطاقة المتواترة، من خلال ضربات ريشته السريعة والموتورة وألوانه القوية والمشعة لدرجة تجعل المشاهد حينما يحدق بها يشعر بما يشبه لحظة اندلاع اللهب لدى فتح باب فرن بصورة مفاجئة.
ويعد كتاب «عالم فان كوخ» للمؤلف روبرت والاس الصادر من دار نشر تايم لايف، والذي يضم 192 صفحة من القطع الكبير، من أهم الكتب التي قدمت المعلومات الصحيحة عن فن وحياة فان جوخ، وسيرة حياته الذاتية في هذا الكتاب تبين أسباب الإيقاع السريع لعمل هذا الفنان. ويذكر المؤلف انه وصلنا حتى يومنا هذا، ما يقارب 1700 لوحة، منها 900 رسم و800 لوحة فنية وثقت تدفق انفعالاته وتأججها على قماش اللوحة، حيث كان ينجز في بعض الأحيان بمعدل لوحة في اليوم الواحد وعلى مدى أسابيع.
وقد باع خلال حياته كلها لوحة واحدة فقط تسببت له في أزمة صحية بدلا من إسعاده وآخر كلماته التي دونها قبل انتحاره ذكر فيها «لكن ما الفائدة ؟»، بالطبع اتضحت الفائدة بعد مضي 25 عاما على وفاته، فلوحاته اليوم تعرض إلى جانب كبار مؤسسي الفن الحديث بول سيزان وجورج ستيورات وبول غوغان.
وتتصف أعمال فان كوخ بالخصوصية الشديدة وهو أكثر فنان، بعد رامبرانت، رسم صورا شخصية لنفسه تجاوز عددها الأربعين، وقد صور نفسه أيضا في معظم لوحاته التي كانت لمشاهد طبيعية أو لمجموعة من الشخوص في مشاهد داخلية.
كان الانطباع العام عن فان كوخ في حياته انه رجل عنيد وحاد الطباع ومختلف جدا. واليوم وبعد ما يقارب من مضي مئة عام على وفاته، أضحى هذا الفنان بطلا أشبه بالأسطورة، حيث يقدّر في هذا العصر التميز والتفرد، وعليه فإن فان جوخ رفض العمومية إلى جانب كونه محاربا من الدرجة الأولى للنزعة المؤسسية والتقليدية.
صحيح أنه أنهى حياته بالانتحار، لكن ذلك لم يتم قبل مقاومته أشد وأعند المقاومة تجاه حياة لم تكن سهلة على الإنسان في ظروفها الاجتماعية والمادية إضافة إلى مرضه العصبي. كان يرى الحياة بأنها أمرا سقيما لا يحتمل، وبأن العالم لعنة الصراع، ولم ينظر إلى نفسه مطلقا كبطل، مما جعل من جرأته أكثر نبالة ومثالية.
وقد كتب عن ذلك قائلا، «على الأغلب، علي أن أعاني المزيد لاحقا. وللحق، فأنا لا أنشد التحدي تحت أي نوع من الظروف لأكون في المحصلة شهيدا. أنا أبحث دوما عن شيء مختلف عن البطولة التي لا أملكها، والتي احترمها كثيرا في الآخرين. أكرر مجددا، أعتقد بأنها ليست واجبي أو لأحد مثلي».
كان فان كوخ يقلل كثيرا من شأن نفسه حتى أنه كان يكتفي بتوقيع أعماله الفنية باسم فنسنت فقط، كما ادعى أن سبب إغفال تدوين اسم عائلته على لوحاته يعود لصعوبة قراءته ولفظه من قبل الفرنسيين، علما بأن أعماله الأولى التي رسمها في هولندا كانت تحمل اسمه الأول أيضا.
ولد فنسنت في 30 مارس عام 1853، في قرية جروت زوندرت في المقاطعة الهولندية شمال بارينت وبجوار جنوب الحدود مع بلجيكا. كان والده قسا أسوة بأسلافه ويتبع الكنيسة الهولندية ومحبوبا من الرعية، وإن لم يتمتع بالحنكة أو يمتلك البلاغة للارتقاء في السلك الكهنوتي، وبقي عمله منحصرا في الانتقال من قرية إلى أخرى.
أما والدته آنا كورنيلي فهي امرأة عادية، وتنحدر من عائلة ذات تطلعات برجوازية وتحرص على المظاهر ويعمل معظم أفرادها في مجال الفن، وتضم عائلتها فنسنت وأخيه الأصغر ثيو وثلاث بنات. كان فنسنت في طفولته فتى جذابا بشعره الأحمر وعينيه الزرقاوين ومغرما بجميع الخنافس وأعشاش الطيور الفارغة ومولعا باختراع الألعاب. كان اخوته يحبون صحبته، إلا أنه كان عنيدا حاد الطباع وله سلوكيات متناقضة، ويشعر بنفور كبير من المديح.
فحينما صنع فيلا صغيرا من الصلصال ورسما لقطة أثنى عليه والداه، فقام مباشرة بتمزيق الرسم وتحطيم الفيل. وفي سن الثانية عشرة أرسله والده إلى مدرسة داخلية في قرية (زيفيبرجن) على بعد 15 ميلا على الرغم من دخله المحدود، إذ كان فنسنت يزداد عنفا من خلال تواصله مع أبناء الفلاحين.
ترك انفصال فنسنت عن عائلته في هذا العمر أثرا كبيرا على شخصه. ولم يعرف كثيرا عن مستوى دراسته سوى أنه تخرج منها برغبة نهمة للقراءة وبقي طيلة حياته مفتونا بالكتب، التي صورها في العديد من لوحاته. وقرأ بفضول وإعجاب كلاً من شكسبير وفولتيروهومر وديكنز من دون تمييز.
كان حبه وتذوقه للفن غريبا أيضا ويعتمد على موضوع اللوحة، فقد قال في إحدى المناسبات بأنه على استعداد لمنح 10 سنوات من عمره مقابل السماح له بالجلوس لمدة اسبوعين مع رغيف خبز وماء أمام لوحة رامبرانت الرائعة «العروس اليهودية».
وفي سن السادسة عشرة ترك المدرسة ربما بسبب الضغوط المالية، وبمساعدة خاله لافنسنت ونفوذه حصل على مكان له في منزل خاص بنسخ اللوحات الفنية الشهيرة. وفي مؤسسة جوبل، عمل في الجانب الإداري من دون أي مؤشر لطباعه التي ستمزق حياته لاحقا، كما استمتع في عمله ونجح، وبدأ يتبادل الرسائل مع أخيه ثيو، حينما كان في التاسعة عشرة من عمره وثيو في الخامسة عشرة.
وتم العثور على 36 رسالة من ثيو لأخيه وعلى 661 رسالة من فنسنت لأخيه الذي كان يحتفظ بها بالإضافة إلى 135 رسالة وجهت لعدد من أفراد العائلة والأصدقاء. وقد ساعدت تلك الرسائل في معرفة سيرة حياته وعلاقته بالآخرين بدقة وأيضا فهم أسباب تعاسته. وتغطي تلك الرسائل مرحلة زمنية تقارب من الثمانية عشر عاما، ابتداء من أغسطس 1872 وانتهاء بيوليو 1890، أما الرسالة الأخيرة فكانت هي تلك التي كتبها ولم يتمها قبل انتحاره بساعات.
وحينما بلغ العشرين عاما، نقل بتوجيه من خاله إلى فرع المؤسسة في لندن، وبقدر ما كان آسفا على مغادرته هولندا، كان قانعا بأنها فرصة رائعة لتعلم اللغة الإنجليزية. استأجر غرفة في منزل أرملة فرنسية تدعى لوير التي تعيش مع ابنتها أورسولا، وكانت رسائله إلى أخيه حينها مفعمة بالتفاؤل والحياة.
بدأت التراجيديا تغزو حياته، حينما وقع في حب الابنة أورسولا حيث احتفظ بحبها سرا لنفسه. عاش فان جوخ حياته في نسج الأحلام التي رأى من خلالها العالم كما يريده أن يكون وليس كما هو في الواقع. وحينما كاشفها بحبه، خاب أمله لرفضها حبه. تمثلت الصدمة في أنه افترض منذ البداية وقبل عام بأنها تبادله الحب، غير أن الحقيقة التي صارحته بها أنه لم يخطر هذا الأمر في بالها مطلقا.
ولدى صحوته من حلمه بعد رفضه، انتقل ليعيش بمفرده في أماكن مختلفة، وفي عزلة كاملة وانقطع عن المراسلة. ورسائله المقتضبة إلى أخيه كانت تحمل مقاطع من الكتاب المقدس وقصائد حزينة سبق أن قرأها.
في باريس
في 1875 ومع قلق عائلته عليه، رتب خاله نقله إلى مكتب باريس آملاً في رفع معنوياته من خلال تغيير المكان.
وفي باريس زاد اهتمامه بالدين الذي وصل حد الهوس، وأهمل بالتدريج عمله، وبات يقنع الزبائن بعدم شراء بعض اللوحات التي لم تعجبه، وكان ذلك في موسم الأعياد، حيث يعتبر أهم موسم للبيع. وأعطي فنسنت إنذارا بمغادرة العمل بعد مضي ثلاثة أشهر.
لم يشعر فنسنت بالندم لطرده بل كتب لأخيه موضحا، «عندما تنضج التفاحة، فإن أية نسمة خفيفة تدفعها للسقوط من الشجرة وهذا ما حصل معي».
كان في الثالثة والعشرين من عمره، عاطلا عن العمل، ولم يكن لديه أية فكرة عما يريد فعله، على الرغم من رسوماته العديدة في رسائله، ولم تكن فكرة أن يصبح فنانا واردة في ذهنه.
لم يتخل حتى ذلك الحين عن أمله في إقناع أورسولا بتغيير رأيها تجاهه، فقرر العودة إلى لندن. ووجد فيها عملا كمدرس في مدرسة داخلية مقابل السكن والغذاء وبلا راتب، ثم انتقل إلى مدرسة أخرى حيث حصل على مرتب قليل إلا أنه درّس الكتاب المقدس الأقرب إلى قلبه.
وفي ديسمبر 1876 عاد إلى عائلته في إجازة، حيث فوجئت العائلة بمظهره الذي ينم عن سوء حالته الصحية ولا مبالاته بالحياة، وبمساعدة خاله مجددا عمل كموظف في مكتبة في دودريخت، ولم يستمر في العمل لأكثر من أربعة أشهر، أمضاها في ترجمة الكتاب المقدس إلى الفرنسية والألمانية والانجليزية مع رسومات إيضاحية.
بات واضحا للعائلة ان مستقبله في السلك الكهنوتي، ورتبت الأمور ليبدأ الدراسة في أمستردام وهو الرابعة والعشرين من عمره. درس اللاتينية والإغريقية تمهيدا للامتحانات، وبعد مضي عام تخلى فنسنت عن الفكرة ولم يتقدم للامتحانات، فقد تمثلت فكرته بأن اللاتينية والاغريقية ليستا بمعرفة ضرورية تساعد في إراحة الإنسان، فالعمل الحقيقي للدين يتمثل في عالم البؤس والفقر.
وفي الخامسة والعشرين سجل في معهد ديني في بروكسل وتخرج بمؤهل يساعده في الأعمال التبشيرية، ونظرا لعدم اهتمامه بالجانب الأكاديمي رفض المعهد تكليفه بمهام أو تمويل رحلاته التبشيرية.
وبدعم مالي ضئيل من والده، ذهب إلى منجم فحم في جنوب بلجيكا، وعاش مع العمال، وساعدهم على تحمل بؤسهم، مما أقنع المعهد بجدوى جهوده، وخصص له راتبا قدره 10 دولارات في الشهر. غير أن مشكلة فنسنت استمرت بسبب تعامله مع الدين من خلال المعنى الحرفي للكتاب المقدس مما دفع المعهد إلى سحب دعمه.
ومن خلال المراسلات بين الأخوين، تمكن ثيو من إقناع أخيه بأن يكون رساما، ولاقت تلك الفكرة اهتماما من فنسنت وعبر عن رأيه في رسالة لأخيه ذكر فيها، بأنه إن لم يتمكن من مساعدة الفقراء والفلاحين في تحسين أوضاعهم ومعيشتهم، فهو يستطيع من خلال الفن ولوحاته إظهار تعاطفه معهم. وربما تلك هي الوسيلة الوحيدة بالنسبة له للتواصل مع الله ومن خلال هذا المفهوم وجد العزاء في فنه.
وفي 1885 وتبعا لأفكار كان من الطبيعي أن يكرس موضوعات لوحاته في البداية لرسم الفلاحين وتصوير بؤس حياتهم. ففي لوحة «المرأة الفلاحة تعقد حزمة شعير»، يؤكد فنسنت على صعوبة العمل من خلال المبالغة في الذراعين القويتين مثل جذع شجرة قديمة، وفي لوحته «الحطاب» يبدو قاطع الخشب صلبا ومستنزفا مثل بنطاله المجعد.
أثارت ملابس الفلاحين الباهتة والبالية اهتمامه وفضوله، وكانت بالنسبة له جزءا مهما يساعد في الكشف عن شخصية مرتديها. كان فان جوخ يدرك بأن أسلوبه في رسم الفقراء يفصله عن معاصريه من الفنانين الهولنديين الذين لجأوا لرسم المشاهد الطبيعية المألوفة. وكان يقول:
إن رسم كبار الشخصيات لا يجدي، فرسم جسد فلاح أثناء عمله هو جوهر الفن الحديث».
وبعد أن اتخذ قراره بأن يصبح فنانا، بدأ يدرب نفسه بنفسه وقام بجميع التمارين لإتقان الأسلوب والتقنية، ورسم مئات الدراسات لتفاصيل عديدة مثل حركة اليد في أوضاع مختلفة.
آكلو البطاطا
كما الزم نفسه بالرسم والتلوين حتى نجح في محاكاة الواقع بصورة مذهلة، مثل لوحته «سلة البطاطا». كان تمكنه من المادة والدرجات اللونية كفيلا بجعل موضوع لوحته ينبض بالحياة. وبعد مضي خمس سنوات على عمله الدؤوب استطاع إبداع لوحته الأولى «آكلوا البطاطا»، التي تعكس جميع تقنياته التي طورها عبر تجاربه، وتجسد شخوص اللوحات حياة الفلاحين الذين عايشهم خلال مرحلة عمله في مناجم الفحم.
وتكتسب تلك اللوحة خاصيتها من خلال الألوان الداكنة والترابية التي تعكس كآبة حياة هؤلاء الأشخاص الذين يتناولون الشراب الساخن والبطاطا فقط كوجبة عشاء بعد يوم عمل شاق وفي غرفة أشبه بالاسطبل. كما كانت الأيدي المعروقة من العمل والملامح المتجهمة وأيضا الحنان المطل من نظرة الفتاة الشابة ووميض نور المصباح البرتقالي يوثق الحياة الشاقة والواقعية أيضا.
وفي مراحل أخرى تحول إلى موضوعات مختلفة إلا أنه تمسك دوما بالتعبير عن الحياة بمختلف صورها سواء في الطبيعة أو الأشخاص.
وفي سن السابعة والعشرين بدأ العمل في استوديو خاص استأجره بدعم مالي من والده بجانب أحد المناجم، وزوده أخيه ثيو بالكتب الفنية وكذلك مدير فرع مؤسسة جوبل. وسرعان ما قرر فنسنت تغيير مقره لصعوبة العمل بسبب ازدحام المكان بأولاد عمال المناجم، وبعد أن رفض دعوة أخيه للحاق به والإقامة معه في باريس تخوفا من كونها مركز الفن العالمي، توجه إلى بروكسل وأقام في أرخص فندق فيها عام 1880.
أمضى في بروكسل عاما كاملا عاش خلاله حياة تقشف قاسية وكان يطلع أخيه على مراحل تقدمه في العمل، ربما عرفانا بدعمه المالي له. ونظرا للمصاريف الكبيرة في بروكسل قرر فنسنت قضاء فصل الصيف في منزل عائلته في أيتين ولم يكن واثقا من كيفية استقبالهم له، وقد وصل إليهم هذه المرة بآمال متواضعة، إذ راوده الأمل في إمكانية بيع لوحاته إلا أنه سرعان ما أدرك بأنه لا يمكن ترويج لوحات الفلاحين في سوق العطارين كما كان يسمي المتعاملين بالفن.
وخلال الأشهر التي أمضاها مع عائلته واجه صدمته الثانية في الحياة، حينما أحب قريبته الأرملة الشابة كي خوس التي تودد إليها من خلال التقرب من طفلها البالغ من العمر 4 سنوات، حيث أتت منزل عائلته لقضاء اجازتها وتجاوز محنتها.
وحينما صارحها بمشاعره، أفزعها إصراره مما دفعها للمغادرة والعودة إلى بيت عائلتها في أمستردام. وحينما لم يتجاوب والداه مع مشاعره والسعي لإقناعها به تحول إحباطه إلى نقمة تجاههما.
لم يتردد طويلا في اللحاق بها إلى امستردام وحينما رفضت مقابلته وأمام إصرار والديها، قام بمشهد درامي إذ وضع يده على نار المصباح وقال لهم بأنه سيتحدث معها في الزمن الذي يتيح له تحمل ألم الحرق فقط، إلا أنهما سارعا في إطفاء المصباح حيث وقع مغشيا عليه. وعطفا عليه ساعده والداها في العثور على نزل لإمضاء ليلته فيه.
وبمساعدة عائلته مرة أخرى ذهب فنسنت إلى لاهاي لدراسة الفن لدى قريبه الفنان أنطون موف، الذي احتضنه في البداية وتعاطف معه وساعده في تأمين مرسم له وقدمه إلى جمعية الفنانين حيث بإمكانه رسم الموديل.
إلا أن تمرده وعصيانه دفع أنطون للابتعاد عنه، ثم ساعده قريب آخر يعمل في مجال الفن، من خلال شراء بعض لوحاته، وحاول إقناعه برسم المشاهد التي تستهوي السياح. وقد لقب فنسنت حينها بالقديس الحديث نظرا لتشبثه بأفكار سامية ومثالية، وذلك نتيجة إصراره في رسم لوحات تثير مشاعر الإحسان والمسئولية بدلا من الحزن الرومانسي البعيد عن حقيقة الحياة.
أراد أن يقول للناس لدى مشاهدة لوحاته بأنه فنان يشعر بعمق الحياة بتعاطف وحنان، غير أنه في نظر الناس لا شيء أو شخصا خياليا غير مقبول ولا مكانة له في المجتمع ولن يحظى بأي منها. وفي ذلك يقول، «ليكن هذا، فأنا أريد أن أريهم ما الذي في داخل قلب هذا الرجل الخيالي، اللاشيء. هذا هو طموحي الذي يتمثل في الدفاع عن الحب وإن كان بدافع الغضب».
وفي لاهاي ارتبط بعلاقة عاطفية مع إحدى الفتيات من بنات الهوى، وحاول عبر علاقته بها تكريس مثله وقيمه في الحياة، من خلال مساعدتها وانتشالها من قاع المجتمع وحمايتها بتقديم حياة كريمة لها ولأولادها وأمها العجوز المتطلبة، وكل ذلك اعتمادا على مساعدات ثيو المالية.
لم تستمر علاقته بها طويلا لتطلبات العجوز المادية التي دفعت بابنتها لحياة الهوى مجددا ونصائح أخيه له بتركها. وفي تلك الفترة تطور فنه وبدأ اهتمامه بالألوان الزيتية ورسم الطبيعة والغابات، ويذكر في إحدى رسائله لأخيه، بأنه كان يبحث في المشاهد التي يرسمها عن شيء غامض وجاد مثل مشهد في فصل الخريف. كان عليه أن يرسم بسرعة حتى يلتقط ذلك التأثير في تحول النهار نحو الغروب، مما جعله يستخدم الألوان من الأنبوب مباشرة على اللوحة لإضفاء التأثير الراغب به، وهو يدرك بأن ذلك بعيد تماما عن أصول المدارس الفنية. كانت سماكة الألوان وبروزها في بعض الأحيان يقارب من نصف بوصة.
عاد مجددا للعيش مع والديه في ضاحية نيونين وساعده والده بمدخراته في تحويل غرفة الغسيل إلى استوديو، وعمل فنسنت على رسم القرية والفلاحين وبالتحديد النساجين بصورة متواصلة. وبعد وفاة والده بثمانية أشهر ذهب إلى أنتويرب، وسجل نفسه في مدرسة للفن لمدة ثلاثة أشهر. وتمثلت استفادته منها في زيادة إبراز الألوان والتفكير بها كأسلوب فني، إذ أدرك بأن الألوان مرتبطة بالمشاعر بصورة ما. كما درس الألوان المشرقة لدى روبنز في المتاحف والكنائس وأحب ذلك.
وأضحت ألوانه أكثر إشراقا، وأضاف اللون القرمزي والأصفر المخضر، وأحس بأن فنه يتخذ منعطفا جديدا، وبأنه بات مهيأ للذهاب إلى باريس.
تأثير باريس
كانت باريس في 1886 حافلة بالابتكارات العلمية والأدب والموسيقى وعلى رأسها الفن. ولأول مرة تعرف فان جوخ على عالم مانيه وديجا وسيزان، وتيارات الانطباعية والتنقيط والرمزية والفن الياباني وعلى كل ما يمكن أن يثير اهتمامه.
وبحذر وخجل صادق فان كوخ كل من الفنانين بيزارو وتولوز لوتريك وسيناك وغوغان وغيرهم من كبار الفنانين وكان يتفحص أعمالهم وأفكارهم بدقة وتركيز، ويحاكيها في بعض الأحيان سعيا لبلوغ إتقانها.
وخلال عامين جرى تحول كامل في فنه وبات فنانا مختلفا عما كان عليه، حيث بدأت لوحاته تشع بالألوان المشرقة والإضاءة ومواضيع مختلفة، حيث رسم مقهى سيرين من الداخل ومشاهد من الطبيعة واستبدل شخوص العمال بصور حية للأصدقاء .
وقد أنتج في باريس ما يقارب من 200 لوحة خلال عامين و50 لوحة عن الزهور و50 مشهداً للطبيعة. ومن أهم لوحاته في عام 1886 «حقل الشعير» التي ترجع ألوانها إلى الانطباعية، حيث ترك لضربات الفرشاة اللعب بجزء من الموضوع، مثل تمايل الشعير والورود الحمراء، غير أن رسم مساحة العشب والشعير والسماء بمستوى أفقي يمنح الشعور بثبات الأرض تبعا لأسلوب الهولنديين وكذلك الأمر في لوحته «الطاحونة في مونتمارتي» في ذات العام.
وقد احتضن عددا من الفنانين فان كوخ، مثل الفنان كاميل بيزارو الذي كان يبلغ من العمر حينها 50 عاماً والذي شرح له الانطباعية التي كان يجهلها فنسنت تماما. وقد أدرك بيزارو موهبة صديقه وقدراته الإبداعية أسوة بعدد غير قليل من الفنانين في فرنسا.
كما تبنى فنسنت أسلوب الفنان الأميركي ستيورات في التنقيط والذي اعتمد في رسم لوحاته على بناء هندسي محكم مع التوازن بين البناء الأفقي والشاقولي وبين الألوان المضيئة والداكنة والباردة والحارة، لم يترك في أعماله أي شيء للصدفة. ورغم رفض فان جوخ لهذا الأسلوب الهندسي المتقن إلا أنه احترم جهود هذا الفنان وأسلوبه وتأثر به.
في آرل
في فبراير 1888 غادر إلى جنوب فرنسا فجأة واستقر في آرل، حيث أمضى مدة من الزمن مع غوغان حتى اختلفا وذلك لتناقض طباعهما. وفي هذه المدينة تألق فن فان جوخ وتمثل ذلك في لوحته «شجر الخوخ المزهر»، ورسم حتى ديسمبر قبل تعرضه لانهيار عصبي ودخوله مستشفى الأمراض العصبية ما يقارب من 90 رسمة و100 لوحة، اشهرها لوحة «عباد الشمس» و«الجسر » و«الفلاح العجوز» و«قوارب الصيد» و«شاطيء سانت ماريز».
وحينما انتقد ثيو وبعض الفنانين سرعته القياسية في انجاز اللوحات دافع عن نفسه من خلال ما ذكره في رسالة لأخيه يقول فيها، «ماذا عن كلود مونيه الذي أنجز 10 لوحات خلال أربعة أشهر فقط. السرعة في العمل لا تعني الاستخفاف بجديته، إنما الاعتماد على ثقة المرء بنفسه وخبرته».
ويعزى اندفاعه للعمل المتواصل الذي كان أشبه بالانتحار إلى رد جميل أخيه ثيو وسعيه إلى ألا يخيب ظنه فيه، وكان يشبه نفسه بمحرك للرسم، علما بأنه كان يرسم مباشرة بالريشة من دون تخطيط مسبق للوحة.
واجه فان كوخ أول انهيار عصبي في آرل كما ذكرنا، وادخل مصح سانت ريمي في مايو 1889، وتعافى بعد مضي شهرين، ولكنه انتكس مجددا وحاول الانتحار بعد زيارة أخوه وزوجته الحامل، حيث تخوف من فقدان الدعم المالي الذي كان يمده به أخيه، وحاول ابتلاع الألوان السامة وقد نجا من تلك المحاولة بسبب وجود الحراس حوله في المستشفى.
استغرق شفاؤه بضعة أسابيع، وبدأ يرسم داخل المصح، كان يصور في لوحاته هيجان الطبيعة التي كانت تعكس صراع أعماقه. وبقي ما يقارب العام في المصح أنتج خلال هذه الفترة ما يقارب لوحتين كل أسبوع رغم انتكاساته.
ومع إصراره على مغادرة المصح، اقترح الفنان كاميل بيسارو إقامته مع الدكتور جاستيه المختص بالأمراض العقلية ومن محبي الفن الحديث في أوفر التي تبعد 20 ميلا عن باريس. أقام في سكن ملائم وعادت إليه صحته وتفاؤله واسترد طاقته في الرسم بصورة متواصلة.
واهتم خلال تلك الفترة بأعمال فن الحفر وهو الأهم بعد رامبرانت، فقد اعتمد الرسم بالخطوط والنقط ليحقق بعد عمق اللوحة والإحساس باللون في الخلفية، وأشهر أعماله في الحفر «لوحة حقل الذرة». ويبدي رأيه في هذا الفن في رسالة لأخيه بقوله، «ما هو الرسم، إنه عمل الشخص من خلال جدار معدني غير مرئي، يقف بين ما يشعر به المرء وبين ما يمكن عمله».

وخلال وجوده في المصح في بداية 1890 وصل إلى فنسنت خبران يمكن لهما إسعاد وتشجيع أي فنان آخر في الحالة العادية، غير أن وقعهما على فان جوخ كان سلبياً.
والخبر الأول تمثل في نشر مقال مسهب عنه وعن فنه، امتدح فيه الناقد الشاب أعماله وأشاد بفنه وإبداعه وعبقريته، مما أثار غضب فنسنت الذي اعتبر ما ذكره مجاملة وإطراء، حيث كان يعتبر نفسه فنانا من الدرجة الثانية، وكذلك بيع أول لوحة له في معرض أقامته جمعية العشرون فنانا في بروكسل.
أما الخبر الثاني الذي دفعه ربما للانتحار حينما صارحه أخوه ثيو في رسالته برغبته في الاستقالة من عمله بسبب الموظفين الذين كانوا يزعجونه في العمل في صالة العرض، مما دفعه للشعور بأنه ليس إلا عبئا على أخيه وبأن سنوات اعتماده عليه قد شارفت على الانتهاء.

انحدرت معنويات فان كوخ أثر ذلك، وفي 27 يوليو 1890 بدأ بكتابة رسالة إلى أخيه ذكر فيها ما يلي، «من خلالي، ساهمت في إنجاز عدد من اللوحات التي رسمتها والتي تعكس الهدوء رغم العواصف. أنا أخاطر بحياتي لأجل الفن، والسبب يعود لمؤازرتك لي، لا بأس. ولكن ما الفائدة؟».


لم يتم فان كوخ رسالته التي وضعها في جيبه وحمل معدات رسمه مع مسدس لم يعرف مصدره، وخرج إلى الطبيعة ولم يعد بعدها. وجدت الرسالة في جيبه مما يشير إلى أنه لم يكن قد بت بعد بشأن قرار انتحاره، وعلى الرغم من أن عمر حياته الفنية لا يزيد على عشر سنوات، إلا أنه ترك ثروة من الأعمال الفنية. وجدير بالذكر أن أخيه ثيو توفي إثر انهيار عصبي تلاه اكتئاب شديد وذلك قبل مضي ستة أشهر على وفاة فان جوخ.


عرض ومناقشة رشا المالح Rasha Al Maleh

هناك تعليق واحد:

  1. رغم اني لست من هواة فن الرسم ولا افهمة كثيرا ولكن اعجبتني المقالة وتفاصيل حياة هذا الفنان التراجيدية

    باركك الله
    عبدالله - الرياض

    ردحذف