هذه
الرواية أو الملحمة لا توثق مرحلة تاريخية من حروب اليابان، أو الانتقال من
عهد الهايكي إلى عهد الجينجي فقط، بل تذهب إلى بعد أعمق وأشمل بكثير وهو
الكونية، ولذا فإن هذا العمل بات من الأعمال الكلاسيكية الخالدة على المستوى
العالمي.
فمن
خلال الحروب التي شهدتها اليابان على مدى 90 عاما ابتداء من 1131 إلى عام
1221، التي دونت في هذه الملحمة والتي كان الرهبان العميان يروونها شفاهة
بمرافقة العزف على الناي أو آلة وترية تدعى بيوا، يجد القارئ بين يديه خلاصة
دورة كاملة للحياة والمتمثلة بالحكمة الإنسانية.
تلك
الحكمة التي جعلت من صراع القادة في الحروب، والقوة والنفوذ خلفية لدور
العدالة الإنسانية، وعليه فإن هذه الرواية تحفل بعدة محاور سواء على صعيد
التحول الاجتماعي أو السياسي أو الإنساني.
وإن
تناولنا البعد المباشر للعمل، سنجد أن الأحداث تكشف للقارئ عدة أبعاد منها
الجانب التاريخي الذي يوثق صراع السلطة بين عائلة تايرا التي استمر نفوذها لما
يقارب من عقدين والمتمثلة بقائدها كيوموري المقرب من العائلة الحاكمة،
والعائلة المتمردة جينجي المتمثلة بقائدها يوريتومو الذي لم يتورع عن قتل عمه
يوشيناكا وأخيه يوشيستون الذي قاد الصراع فعليا وحقق الانتصار.
أما
البعد الثاني فيشير إلى علو مكانة المحاربين في المجتمع والتركيز أهمية مبادئ
ومثل المحاربين مثل الولاء والشجاعة والإخلاص، أما البعد الثالث فيشير إلى
الصراع بين القيم والقناعات القديمة المثمثلة في بلاط الحاكم والقيم الجديدة
المستمدة من جيوش الأقاليم، إلى جانب بروز الجانب الديني المتمثل في البوذية
حيث يتحول العديد من قادة الحروب وجنودها إلى رهبان متنسكين من خلال دورة
الحياة التي تأخذ مجراها.
وجدير
بالذكر أن معظم العروض التي تناولت هذه الملحمة اقتصرت على البعد المباشر أو
خلفية العمل، غافلين عن المغزى العام الذي يتجلى من خلال تفاصيل الحياة
اليومية وسلوكيات الأفراد لاسيما القادة وقراراتهم التي ترسم بنفسها مصيرهم
المأساوي.
تبدأ
الرواية بعرض لحياة القائد الشديد البأس كيوموري الذي تتجسد فيه القسوة
والشراسة والأنانية، الذي يتخلى عن محظيته الأثيرة إلى نفسه جيو حينما يلتقي
بالراقصة الشابة الجديدة هوتوكي. يدفع الهجران بجيو إلى سلك الرهبنة بعدما
عاشت بضعة أشهر تعاني من البؤس والألم. وفي أحد الأيام تفاجأ بدخول الراقصة
هوتوكي عليها حليقة الرأس لتنذر نفسها للرهبنة هي الأخرى، لعدم قناعتها بجدوى
الحياة التي تعيشها.
ومن
خلال السرد يتضح للقارئ ظلم كيوموري وفداحة جرائمه ووحشيته. وتتوالى أحداث
القصة لتصور في كل فصل مشهدا جديدا لأفراد من القادة وصراعاتهم ومواقفهم
الإنسانية والبطولية على كافة الأصعدة.
ومنذ
البداية تشير جميع الدلائل إلى النهاية المرتقبة لهذا القائد من خلال عدة
ظواهر غيبية كما في الواقعية السحرية، حيث يصاب كيوموري بحمى شديدة لا تفارقه
وتدفع كل من حوله إلى تحاشيه لدرء الوهج الحراري المنبعث منه، كما قيل بأن
المياه التي كان يستحم بها كانت تصل إلى درجة الغليان ما إن تلامس جسده، وهكذا
تأتي منيته من خلال مضاعفات مرضه.
ومن
الأحداث البارزة التي تستوقف القارئ والتي يتجلى فيها قمة الصراع الداخلي
للإنسان، بين الواجب والعاطفة، النبل الإنساني والطموح، الجزء الذي يتناول موت
أتسوموري تايرا.
يبدأ
المشهد حينما كان نبلاء عائلة تايرا ينسحبون إلى سفنهم على الشاطيء هربا من
الأعداء. في تلك الأثناء كان المحارب كوماجاي ناوزان، يسير على صهوة جواده على
الشاطئ بحثا عن أحد القادة من الأعداء للقضاء عليه بهدف الإعلاء من شأنه
ومكانته بين قومه.
وبعد
حين تلتقط عيناه مراده، ويكب باتجاه محارب على صهوة حصانه على الشاطئ كان يسعى
للحاق بالسفينة. حينها يلوح كوماجاي براية الحرب ويخاطب المحارب بصوت عال
قائلا، «من العار أن تدير ظهرك للعدو.. ارجع».
وبلا
تردد يستدير المحارب باتجاه عدوه، ويبدآ قتالا شديد البأس، وبسرعة يستطيع
كوماجاي أن يرميه أرضا، وحينما يترجل ويجرد المحارب من خوذته لجز رأسه، يفاجأ
بوجه شاب صغير لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وعلى حين غرة يتبادر إلى ذهنه
ابنه الذي يماثله في العمر ويتساءل عن شعور والد الفتى إن وصله خبر مقتله.
عندها
يتوقف ويسأله عن اسمه ويفاجأ بصلابة الشاب وجرأته. وبعد صراع داخلي تنتصر
عاطفة الأبوة في داخل القائد على طموحه الشخصي ويتخذ قراره بإخلاء سبيله.
لكن
القدر يمنع كوماجاي من تنفيذ رغبته بالإبقاء على حياته، حينما يلحظ قدوم
مجموعة من محاربي قومه، عندها يخاطب الشاب بأسى عميق قائلا له والدموع تنساب
من مقلتيه، «على الرغم من أنني أفضل إطلاق سراحك، إلا أنك لن تستطيع النجاة من
الآخرين. لذا من الأفضل أن تموت بيدي وسأتلو لك الصلوات لتذهب إلى الجنان».
ولا
يدري القائد في خضم انفعاله كيف قطع رأسه، كل ما كان يدركه أنه استسلم لبكاء
مرير وعنيف، ومن بعدها تحول إلى سلك الرهبنة.
وهكذا
تتوالى الصراعات والأحداث ليمثل كل مشهد عبرة ومغزى حياتي زاخرا بالمعاني
الإنسانية والصراع مع الذات والمحيط والعدو، فهناك المحاربة الشابة تاموي
غوزين التي آلت على نفسها الدفاع عن قائد الحملة كيسو يوشيناكا والتي حامت عنه
حتى النهاية ووقفت بالمرصاد للعديد من الأعداء شديدي البأس وقضت عليهم بلا
تردد.
وكذلك
قائد أحد الحملات الذي يطلب من أحد جنوده أن يقضي عليه ويجنبه العار بالموت
على أيدي الأعداء، وحينما يرفض الجندي قتله، وأخيرا يتفق الاثنان حيث يطعن
القائد نفسه ومن ثم يقوم الجندي بقطع رأسه، ورميه باليم بعد ربطه ببعض الحجارة
وذلك لحرمان الأعداء من ادعاء قتله.
وتأتي
نهاية عائلة تايرا، حينما تحاصر سفن العدو سفن عائلة تايرا الهاربة، فلا تجد
أرملة كيوموري مفرا من أن ترمي نفسها مع نجلها في اليم، ويسجل موتهما نهاية
عهد حكم تايرا وبروز عهد الجنيجي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق