الأدب حارب أوهامها واختلف عليها أهل الفن والفلسفة
رشا المالح
22 مايو 2011
بات مفهوم الحقيقة في الزمن المعاصر نسبياً، خاصة مع اختلاف المعايير والقيم والمثل، فما يعتبره أحدنا كحقيقة يراه آخر كنقيض لها. وإن كانت الحقيقة فيما مضى واضحة كالأبيض والأسود، فقد باتت في الحاضر متدرجة بالرماديات الأقرب تارة إلى السواد، وأخرى إلى البياض.
الحقيقة في الماضي تشبه المعادلات الرياضية الأساسية مثل (1+1= 2)، التي لا يختلف عليها اثنان، ولكن ما إن خرجت عن حدود المعرفة المرئية والملموسة من قبل الفرد والجماعة، حتى تشعبت معادلاتهـــا، وكــــثرت نظرياتها الفلسفية والعلمية.
حيث باتت مرتبطة برمز مجهول في كل معادلة للحقيقة. ويبقى على كل امرئ معني بهـــــذا الشأن أن يفكـــك رموزهــــا للحصول على الإجابـــة الأكــــثر قربـــاً من الحقيقة.
يتطلب الاقتراب منها الكثير من الموضوعية والمعرفة والتجرد من الدوافع الشخصية، والانفتاح على المناخ المحيط بها، وعليه فقد حشد الفلاسفة العديد من القضايا المرتبطة بهذا الشأن. وتتمثل القضية الأولى في تحديد ما هي القضايا أو الأمور التي يمكن أن تكون حقيقية. وعليه فهل الحقيقة تابعة لمجموعة من الجمل، أم لمنظومة من الفرضيات التجريدية المنفصلة عن اللغة والزمن؟
واختلفت دلالاتها ومعانيها بين الإنسان العادي والفلاسفة، حيث لا يعترف الفلاسفة بمصطلحات الحقيقة التي نتداولها في حياتنا اليومية، فبالنسبة لهم لا معنى لقولنا هذا الصديق حقيقي، أو هويته مزيفة.
فجوهر كلمة الحقيقـــة عندهـــم هو المهـــم، وتتجلى في القول على سبيل المثال أن دبي تقع على الساحل الشرقي لشبـــه الجزيرة العربية. وهنــــا تقف الحقيقـــة بتضــــاد مع الكذب والزيف وكل المعاني المناقضة لها.
وأبرز النظريات التي تناولت الحقيقة، هي نظرية التواصل، ونظرية الدلالات، ونظريـــة الإجمـــاع، ونظرية التماسك ونظرية البراغماتية.
الحقيقة من منظور فلسفي
أورد الكاتب المغربي رشيد بو طيب في مقالته عن مفهوم التواصل في الفلسفة، مقارنة لنظريات الحقيقة، ذكر فيها، (في نظرية الإجماع، أن عالم الاجتماع الألماني هابرماس لوهمان يربط الحقيقة بالعقل، رافضا الطرح الميتافيزيقي وطرح العلوم الحقة أيضا، فالحقيقة في نظره، لا تتأسس كأنطولوجيا، وليست هبة التجربة، وإنما تتأسس على العقل، وتهدف إلى الإجماع.
ويرفض هابرماس ــ استنادا على ربط الحقيقة بالعقل- الطرح الميتافيزيقي وطرح العلوم الحقة أيضاً، فالحقيقة في نظره، لا تتأسس كأنطولوجيا، وليست هبة التجربة، وإنما تتأسس على العقل،.
وتهدف إلى الإجماع. حيث العقل هو المرجعية الأخيرة للمفكرين والممارسين والمتكلمين من البشر في الواقع اليومي كما في العلم. وعليه، فإنه يرى بأن الحقيقة تنتمي إلى عالم الأفكار، وليس إلى عالم الإدراك الحسي. ويلخص نقده لنظريات الحقيقة في النقاط الأربع التالية:
أولا: أن نظرية الحقيقة كإجماع (نظرية هابرماس)، ترى أن الحقيقة والصحة ادعاءات صحة تنتمي إلى الخطاب، من دون أن تنكر الاختلافات المنطقية بين الخطابات النظرية والتطبيقية. ولكن نظرية الحقيقة الميتافيزيقية توضح صحة القضايا التطبيقية بالطريقة نفسها، التي توضح بها القضايا النظرية. في المقابل ينكر التيار الوضعي إمكانية الحديث عن الحقيقة في المجال التطبيقي.
ثانيا: أن نظرية الإجماع تفرق بين الأنظمة التي تتكون من تجارب ومعلومات وأفعال وبين الخطابات التي لا بد من البرهنة على صحة ادعاءاتها، في حين تخلط نظرية الحقيقة الترنسندنتالية (التجاوز) بين شروط التجربة وشروط الخطاب أو الاستدلال.
ثالثا: تفرق نظرية الإجماع بين ادعاءات الصحة عبر الذاتية واليقينيات الذاتية، في حين تقوم بعض نظريات الحقيقة، نظرية التوافق مثلاً، على يقين ذاتي.
رابعا: نظرية الإجماع تفرق بين ادعاءات الصحة التي تنتمي إلى الخطاب الاستدلالي، وتلك التي لا تنتمي إلى هذا الخطاب. في حين تخلط بعض نظريات الحقيقة بين الاثنين.
الأفعال التواصلية عند هابرماس
الحقيقة كما يفهمها هابرماس إذن، قول لا واقع، استدلال لا تجربة. ونتيجة للتفاعل النقدي مع النظريات اللغوية والبرغماتية، ووصل هابرماس إلى اكتشاف ادعاءات الصحة، التي بحسب نظرته تقوم عليها كل الأفعال التواصلية. ويدافع عن فكرة وجود أربع ادعاءات للصحة، وهي كالتالي: المفهومية، الحقيقة، الصحة، الصدقية.
الحقيقة والصحة هي ادعاءات صحة تنتمي إلى الخطاب الاستدلالي، في حين لا تملك المفهومية والصدقية طابعا استدلاليا، ولكن طابع الفعل. ثم ينتقل هابرماس للتمييز بين اليقينيات المبنية على التجارب الذاتية (اليقينيات الذاتية) وادعاءات الصحة، حيث يرى أن هذه الأخيرة عبر/ذاتية، يمكن التحقق منها، في حين أن اليقينيات الذاتية فردية وذاتية.
وهذه اليقينيات المرتبطة بالتجربة الشخصية تنقسم إلى ثلاثة: فهناك اليقين الاعتقادي المرتبط بالتجارب التواصلية والذي يرتكز على ادعاء الصدقية، واليقين غير المحسوس الذي يرتبط بفعل الفهم والذي يرتكز على ادعاء المفهومية، ثم اليقين المحسوس الذي لا يتضمن أي ادعاء/ صحة.
بعد ذلك ينتقل هابرماس للتمييز بين الصحة والحقيقة. إن الاثنين معا من نوع ادعاءات صحة استدلالية، لكن هل يعني هذا بأن البرهنة على صحة معيار تشبه طريقة البرهنة على حقيقة قول معين؟
الأدب وتهويمات الروح
يتجلى مفهوم الحقيقة في الأدب من خلال ما ذكره الكاتب رشيد بوطيب في كتابه (العقل..قاطع طريق/ في صداقة الفلسفة وفي نقد الحرية)، منطلقاً من مقولة فريدريك نيتشه (1844 ؟ 1900) في مقدمة كتابه (قف، إنه الإنسان)، (ذلك أنه لما اختلق المرء العالم المثالي، نزع بنفس الدرجة عن الواقع قيمته ومعناه وصدقيته).
لذلك انطلق الأدب من عالم مثالي منفصل عن الواقع، وسيطر على الإنسانية بمبادئه المثالية لزمن طويل، ومع ظهور نيتشه، وفيودور دوستويفسكي (1821 ؟ 1881)، اقترب الأدب من الحقيقة. وكمثال على ذلك رواية (الأبله) لدوستويفسكي، حيث ربط بين فلسفة ما بعد الحداثة ونظرتها إلى العالم والأدب. والعامل المشترك بينهما احتفالهما باللغة وتعدد الأصوات.
وتقول شخصية آغلايا يبانتشينا للأبله ميشكين، (ما تقولونه ليس سوى الحقيقة، وهو لذلك غير عادل(، ونظراً لكون ميشكين أبله أو بالأحرى طيب بالفطرة، فقد استطاع النفاذ إلى الحقيقة التي تكمن في دواخل المحيطين به، ولكن ليبقى غريباً عنهم أسوة بكل إنسان إيجابي وجميل.
وتندرج ثلاثية نجيب محفوظ (1911 ؟ 2006)، (بين القصرين) 1956، و(قصر الشوق) 1957، و(السكرية) 1957، في إطار تعدد الأصوات والأفكار، ليكشف عن الصراع بين الواقع والمثل الزائفة، والحقيقة التي يتمسك بها كل طرف من منظوره الخاص.
وعمد محفوظ في عمله، أن يكون صامتاً (فيما يخص قضايا الروح) دون أن يتخلى عن عادة الإعلان عما وراء حاجز الصمت من أفكار مستترة وخطط ونوايا، بواسطة تيار الشعور أو المونولوج الداخلي، كما تعامل مع تفاصيل الوجوه وما تخفيه وراء الأقنعة.
المنظور الآخر للفن
رأى الفنان الحقيقة في العصور القديمة من خلال الطبيعة، التي كانت بمثابة الملهم الأكبر له. حين كانت خارج كيانه الإنساني، وسعى إلى اكتشافها وتسجيلها كحقيقة بصرية.
ووصلت الفنان بالحقيقة البصرية إلى أوجها في عصر النهضة بإيطاليا، حيث اكتشفت قواعد المنظور، والظل والنور والبعد الثلاثي للوحة. ومن أبرز فناني ذلك العصر، مايكل أنجلو (1475 ؟ 1564)، وليوناردو دافنشي (1452 ؟ 1519) ورامبرانت (1606 ؟ 1669).
ومع بداية القرن العشرين وانعكاسات الحربين العالميتين الأولى والثانية، تكشفت للفنانين حقيقة جديدة خاصة، بعد اكتشاف التصوير الفوتوغرافي، إذ أدركوا أن العين تسجل صورة لا صلة لها بوجدان ومشاعر الفنان وحقيقته. وعليه توجه الفنانون في رؤيتهم الفنية نحو ذاتيتهم واعتبروها مصدرا صادقاً للتعبير عن إبداعاتهم الفنية.
وهكذا انتقلت اللوحة من الرسم الواقعي البصري، إلى الانطباعية الوجدانية، فتحررت من (الإدراك الحسي البصري). وانتقل الفنان بالانطباعية، إلى (منطق الإدراك الكلي)، الذي يبرز بوضوح في الفن المصري القديم، والفن الفارسي، والفن المكسيكي القديم.
وكمثال على ذلك فإن رسم صندوق وفق (الإدراك الحسي البصري) يعني رسم ثلاثة أسطح منه، والتي يمكن رؤيتها بالعين حسب قاعدة المنظور، أما رسمه وفق (منطق الإدراك الكلي) الحقيقة متعددة الجوانب وكلها صحيحة.
وتبين الأعمال الفنية التي انحصرت في (الذات) دون (الموضوع)، أنه كان من الصعب على المتلقي فهم أو إدراك رسالة الفنان وبالتالي النفور من العمل. أما العمل الذي يقتصر على (الموضوع) فيبدو باهتاً وتسجيلياً وبعيداً عن مفهوم الإبداع، وعليه فإن العمل الفني الإبداعي هو الذي يجمع بين (الذاتي والموضوعي).
وفي أواخر القرن العشرين برزت حقيقة جديدة كانت نتاج الفجوة التي بدأت تفصل بين الفنانين والجمهور الذي تضاءل اهتمامه بالفن وبارتياد المعارض الفنية، بسبب ضغوطات الحياة من جانب وابتعاد الفن عن هموم ومشاكل الإنسان العادي.
وتمثلت الحقيقة الجديدة في مفهوم (الفن التركيبي) الذي سعى الفنانون من خلاله إلى الربط من هموم الإنسان المعاصر والفن، لتأخذ الفكرة حيزاً أكبر من مساحة الحقيقة وليكون الفن مجرد أداة تخدم الفكرة.
وشمل الفن التركيبي وسائط الفنون الحديثة التي أضافت مصداقية جديدة في إطار الفنون البصرية. ويذكر أن ( الفن التركيبي) قوبل بحماس كبير في بداياته وليتحول مع مرور الزمن إلى أحد الموجات الفنية القصيرة الأمد، حيث خبى ألق هذه الحركة في الغرب.
رشا المالح
22 مايو 2011
بات مفهوم الحقيقة في الزمن المعاصر نسبياً، خاصة مع اختلاف المعايير والقيم والمثل، فما يعتبره أحدنا كحقيقة يراه آخر كنقيض لها. وإن كانت الحقيقة فيما مضى واضحة كالأبيض والأسود، فقد باتت في الحاضر متدرجة بالرماديات الأقرب تارة إلى السواد، وأخرى إلى البياض.
الحقيقة في الماضي تشبه المعادلات الرياضية الأساسية مثل (1+1= 2)، التي لا يختلف عليها اثنان، ولكن ما إن خرجت عن حدود المعرفة المرئية والملموسة من قبل الفرد والجماعة، حتى تشعبت معادلاتهـــا، وكــــثرت نظرياتها الفلسفية والعلمية.
حيث باتت مرتبطة برمز مجهول في كل معادلة للحقيقة. ويبقى على كل امرئ معني بهـــــذا الشأن أن يفكـــك رموزهــــا للحصول على الإجابـــة الأكــــثر قربـــاً من الحقيقة.
يتطلب الاقتراب منها الكثير من الموضوعية والمعرفة والتجرد من الدوافع الشخصية، والانفتاح على المناخ المحيط بها، وعليه فقد حشد الفلاسفة العديد من القضايا المرتبطة بهذا الشأن. وتتمثل القضية الأولى في تحديد ما هي القضايا أو الأمور التي يمكن أن تكون حقيقية. وعليه فهل الحقيقة تابعة لمجموعة من الجمل، أم لمنظومة من الفرضيات التجريدية المنفصلة عن اللغة والزمن؟
واختلفت دلالاتها ومعانيها بين الإنسان العادي والفلاسفة، حيث لا يعترف الفلاسفة بمصطلحات الحقيقة التي نتداولها في حياتنا اليومية، فبالنسبة لهم لا معنى لقولنا هذا الصديق حقيقي، أو هويته مزيفة.
فجوهر كلمة الحقيقـــة عندهـــم هو المهـــم، وتتجلى في القول على سبيل المثال أن دبي تقع على الساحل الشرقي لشبـــه الجزيرة العربية. وهنــــا تقف الحقيقـــة بتضــــاد مع الكذب والزيف وكل المعاني المناقضة لها.
وأبرز النظريات التي تناولت الحقيقة، هي نظرية التواصل، ونظرية الدلالات، ونظريـــة الإجمـــاع، ونظرية التماسك ونظرية البراغماتية.
الحقيقة من منظور فلسفي
أورد الكاتب المغربي رشيد بو طيب في مقالته عن مفهوم التواصل في الفلسفة، مقارنة لنظريات الحقيقة، ذكر فيها، (في نظرية الإجماع، أن عالم الاجتماع الألماني هابرماس لوهمان يربط الحقيقة بالعقل، رافضا الطرح الميتافيزيقي وطرح العلوم الحقة أيضا، فالحقيقة في نظره، لا تتأسس كأنطولوجيا، وليست هبة التجربة، وإنما تتأسس على العقل، وتهدف إلى الإجماع.
ويرفض هابرماس ــ استنادا على ربط الحقيقة بالعقل- الطرح الميتافيزيقي وطرح العلوم الحقة أيضاً، فالحقيقة في نظره، لا تتأسس كأنطولوجيا، وليست هبة التجربة، وإنما تتأسس على العقل،.
وتهدف إلى الإجماع. حيث العقل هو المرجعية الأخيرة للمفكرين والممارسين والمتكلمين من البشر في الواقع اليومي كما في العلم. وعليه، فإنه يرى بأن الحقيقة تنتمي إلى عالم الأفكار، وليس إلى عالم الإدراك الحسي. ويلخص نقده لنظريات الحقيقة في النقاط الأربع التالية:
أولا: أن نظرية الحقيقة كإجماع (نظرية هابرماس)، ترى أن الحقيقة والصحة ادعاءات صحة تنتمي إلى الخطاب، من دون أن تنكر الاختلافات المنطقية بين الخطابات النظرية والتطبيقية. ولكن نظرية الحقيقة الميتافيزيقية توضح صحة القضايا التطبيقية بالطريقة نفسها، التي توضح بها القضايا النظرية. في المقابل ينكر التيار الوضعي إمكانية الحديث عن الحقيقة في المجال التطبيقي.
ثانيا: أن نظرية الإجماع تفرق بين الأنظمة التي تتكون من تجارب ومعلومات وأفعال وبين الخطابات التي لا بد من البرهنة على صحة ادعاءاتها، في حين تخلط نظرية الحقيقة الترنسندنتالية (التجاوز) بين شروط التجربة وشروط الخطاب أو الاستدلال.
ثالثا: تفرق نظرية الإجماع بين ادعاءات الصحة عبر الذاتية واليقينيات الذاتية، في حين تقوم بعض نظريات الحقيقة، نظرية التوافق مثلاً، على يقين ذاتي.
رابعا: نظرية الإجماع تفرق بين ادعاءات الصحة التي تنتمي إلى الخطاب الاستدلالي، وتلك التي لا تنتمي إلى هذا الخطاب. في حين تخلط بعض نظريات الحقيقة بين الاثنين.
الأفعال التواصلية عند هابرماس
الحقيقة كما يفهمها هابرماس إذن، قول لا واقع، استدلال لا تجربة. ونتيجة للتفاعل النقدي مع النظريات اللغوية والبرغماتية، ووصل هابرماس إلى اكتشاف ادعاءات الصحة، التي بحسب نظرته تقوم عليها كل الأفعال التواصلية. ويدافع عن فكرة وجود أربع ادعاءات للصحة، وهي كالتالي: المفهومية، الحقيقة، الصحة، الصدقية.
الحقيقة والصحة هي ادعاءات صحة تنتمي إلى الخطاب الاستدلالي، في حين لا تملك المفهومية والصدقية طابعا استدلاليا، ولكن طابع الفعل. ثم ينتقل هابرماس للتمييز بين اليقينيات المبنية على التجارب الذاتية (اليقينيات الذاتية) وادعاءات الصحة، حيث يرى أن هذه الأخيرة عبر/ذاتية، يمكن التحقق منها، في حين أن اليقينيات الذاتية فردية وذاتية.
وهذه اليقينيات المرتبطة بالتجربة الشخصية تنقسم إلى ثلاثة: فهناك اليقين الاعتقادي المرتبط بالتجارب التواصلية والذي يرتكز على ادعاء الصدقية، واليقين غير المحسوس الذي يرتبط بفعل الفهم والذي يرتكز على ادعاء المفهومية، ثم اليقين المحسوس الذي لا يتضمن أي ادعاء/ صحة.
بعد ذلك ينتقل هابرماس للتمييز بين الصحة والحقيقة. إن الاثنين معا من نوع ادعاءات صحة استدلالية، لكن هل يعني هذا بأن البرهنة على صحة معيار تشبه طريقة البرهنة على حقيقة قول معين؟
الأدب وتهويمات الروح
يتجلى مفهوم الحقيقة في الأدب من خلال ما ذكره الكاتب رشيد بوطيب في كتابه (العقل..قاطع طريق/ في صداقة الفلسفة وفي نقد الحرية)، منطلقاً من مقولة فريدريك نيتشه (1844 ؟ 1900) في مقدمة كتابه (قف، إنه الإنسان)، (ذلك أنه لما اختلق المرء العالم المثالي، نزع بنفس الدرجة عن الواقع قيمته ومعناه وصدقيته).
لذلك انطلق الأدب من عالم مثالي منفصل عن الواقع، وسيطر على الإنسانية بمبادئه المثالية لزمن طويل، ومع ظهور نيتشه، وفيودور دوستويفسكي (1821 ؟ 1881)، اقترب الأدب من الحقيقة. وكمثال على ذلك رواية (الأبله) لدوستويفسكي، حيث ربط بين فلسفة ما بعد الحداثة ونظرتها إلى العالم والأدب. والعامل المشترك بينهما احتفالهما باللغة وتعدد الأصوات.
وتقول شخصية آغلايا يبانتشينا للأبله ميشكين، (ما تقولونه ليس سوى الحقيقة، وهو لذلك غير عادل(، ونظراً لكون ميشكين أبله أو بالأحرى طيب بالفطرة، فقد استطاع النفاذ إلى الحقيقة التي تكمن في دواخل المحيطين به، ولكن ليبقى غريباً عنهم أسوة بكل إنسان إيجابي وجميل.
وتندرج ثلاثية نجيب محفوظ (1911 ؟ 2006)، (بين القصرين) 1956، و(قصر الشوق) 1957، و(السكرية) 1957، في إطار تعدد الأصوات والأفكار، ليكشف عن الصراع بين الواقع والمثل الزائفة، والحقيقة التي يتمسك بها كل طرف من منظوره الخاص.
وعمد محفوظ في عمله، أن يكون صامتاً (فيما يخص قضايا الروح) دون أن يتخلى عن عادة الإعلان عما وراء حاجز الصمت من أفكار مستترة وخطط ونوايا، بواسطة تيار الشعور أو المونولوج الداخلي، كما تعامل مع تفاصيل الوجوه وما تخفيه وراء الأقنعة.
المنظور الآخر للفن
رأى الفنان الحقيقة في العصور القديمة من خلال الطبيعة، التي كانت بمثابة الملهم الأكبر له. حين كانت خارج كيانه الإنساني، وسعى إلى اكتشافها وتسجيلها كحقيقة بصرية.
ووصلت الفنان بالحقيقة البصرية إلى أوجها في عصر النهضة بإيطاليا، حيث اكتشفت قواعد المنظور، والظل والنور والبعد الثلاثي للوحة. ومن أبرز فناني ذلك العصر، مايكل أنجلو (1475 ؟ 1564)، وليوناردو دافنشي (1452 ؟ 1519) ورامبرانت (1606 ؟ 1669).
ومع بداية القرن العشرين وانعكاسات الحربين العالميتين الأولى والثانية، تكشفت للفنانين حقيقة جديدة خاصة، بعد اكتشاف التصوير الفوتوغرافي، إذ أدركوا أن العين تسجل صورة لا صلة لها بوجدان ومشاعر الفنان وحقيقته. وعليه توجه الفنانون في رؤيتهم الفنية نحو ذاتيتهم واعتبروها مصدرا صادقاً للتعبير عن إبداعاتهم الفنية.
وهكذا انتقلت اللوحة من الرسم الواقعي البصري، إلى الانطباعية الوجدانية، فتحررت من (الإدراك الحسي البصري). وانتقل الفنان بالانطباعية، إلى (منطق الإدراك الكلي)، الذي يبرز بوضوح في الفن المصري القديم، والفن الفارسي، والفن المكسيكي القديم.
وكمثال على ذلك فإن رسم صندوق وفق (الإدراك الحسي البصري) يعني رسم ثلاثة أسطح منه، والتي يمكن رؤيتها بالعين حسب قاعدة المنظور، أما رسمه وفق (منطق الإدراك الكلي) الحقيقة متعددة الجوانب وكلها صحيحة.
وتبين الأعمال الفنية التي انحصرت في (الذات) دون (الموضوع)، أنه كان من الصعب على المتلقي فهم أو إدراك رسالة الفنان وبالتالي النفور من العمل. أما العمل الذي يقتصر على (الموضوع) فيبدو باهتاً وتسجيلياً وبعيداً عن مفهوم الإبداع، وعليه فإن العمل الفني الإبداعي هو الذي يجمع بين (الذاتي والموضوعي).
وفي أواخر القرن العشرين برزت حقيقة جديدة كانت نتاج الفجوة التي بدأت تفصل بين الفنانين والجمهور الذي تضاءل اهتمامه بالفن وبارتياد المعارض الفنية، بسبب ضغوطات الحياة من جانب وابتعاد الفن عن هموم ومشاكل الإنسان العادي.
وتمثلت الحقيقة الجديدة في مفهوم (الفن التركيبي) الذي سعى الفنانون من خلاله إلى الربط من هموم الإنسان المعاصر والفن، لتأخذ الفكرة حيزاً أكبر من مساحة الحقيقة وليكون الفن مجرد أداة تخدم الفكرة.
وشمل الفن التركيبي وسائط الفنون الحديثة التي أضافت مصداقية جديدة في إطار الفنون البصرية. ويذكر أن ( الفن التركيبي) قوبل بحماس كبير في بداياته وليتحول مع مرور الزمن إلى أحد الموجات الفنية القصيرة الأمد، حيث خبى ألق هذه الحركة في الغرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق