الجمعة، 18 نوفمبر 2011

فصول أربعة تعاقبت على حياة الراهب الأصهب

الموسيقار الإيطالي فيفالدي :عبقرية لا تنضب

يعتبر الملحن وعازف الكمان الإيطالي أنطونيو فيفالدي من أبرز الموسيقيين في القرن الثامن الذين تمتعوا بقدرات استثنائية، وضعت معايير جديدة للموسيقى، ولقب باسم (الراهب الأصهب) نظراً لدخوله السلك الكهنوتي في مرحلة شبابه وللون شعره الأحمر.

أثبتت البحوث الأخيرة أن الملحن وعازف الكمان أنطونيو فيفالدي الذي اشتهر بمقطوعته (الفصول الأربعة)، لحن أكثر من 700 مقطوعة، تنوعت ما بين السوناتا التي تضم عادة ما بين ثلاث إلى أربع حركات، والأوبرا الموسيقى الدرامية التي تجمع بين الغناء والعزف على عدد من الآلات الموسيقية، والكونشيرتو التي تجمع بين صوتين غنائيين مقابل فرقة كاملة من الأوركسترا.

الفصول الأربعة
لحن فيفالدي مقطوعة كونشيرتو الكمان (الفصول الأربعة) التي اشتهر بها حتى يومنا هذا والتي عكست براعته في تصوير الطبيعة عبر الموسيقى، عام 1723. ويمثل كل جزء أحد الفصول الأربعة، ليعزف فصل الشتاء بالأوتار العالية من الكمان، في حين تثير نهاية فصل الصيف عاصفة عارمة يختم بها مقطوعته.
ونشرت هذ المقطوعة عام 1725، كجزء من 12 كونشيرتو وكان ترتيبها الثامنة، ويتضمن كل جزء من فصول الكونشيرتو ثلاث حركات تتراوح بين الإيقاع الهادىء والسريع. وكان قد قدم من خلالها ولأول مرة في تاريخ الموسيقى، العزف المنفرد للكمان بمعزل عن فرقة الأوركسترا.
الربيع
تبدأ الحركة الأولى من (الفصول الأربعة)، بالاحتفاء بفصل الربيع لنسمع صوت العصافير التي تستقبل عودة الفصل بسعادة وحبور عبر غنائها ليسمع نباح كلب الراعي في الحركة الثانية، وبعدها صوت آلة القرب الريفية التي تملأ الفضاء في الحركة الثالثة.

الصيف
تبدأ الحركة الأولى من فصل الصيف بنداء العصفور يتبعه هديل الحمام وزقزقة العصافير، لينتقل في الحركة الثانية إلى النسيم العليل الذي يحمل أصوات أزيز الحشرات التي تحوم حول الراعي لتوقظه من قيلولته، ينتقل بعدها الحركة الثالثة حيث تتحقق مخاوف الراعي بهطول البرَد الغزير من السماء المزمجرة لتفصل حبوب القمح عن سنابلها.

الخريف
في الخريف تبدأ الحركة الأولى باحتفال الفلاحين وسعادتهم بجني محاصيلهم الذهبية، لينتهي احتفالهم الصاحب بالنوم العميق. وفي الحركة الثانية تخبو موسيقى الاحتفال والرقص تدريجياً في الهواء العذب الذي يمنح المحتفلين السكينة والطمأنينة خلال نومهم. وفي الحركة الثالثة، يبزغ الفجر لينطلق بوق الصيادين معلنا بدء رحلة الصيد ومطاردة فريستهم بتتبع أثرها، لتستسلم الفريسة أخيراً بعد إنهاكها من الجراح ومطاردة الكلاب.

الشتاء
تبدأ الحركة الأولى من فصل الشتاء، برعشة البرد في صقيع الجليد والرياح القارصة، ليستمر الجري مع التعثر بين الحين والآخر، مع اصطكاك الأسنان من البرد الشديدة. وتصور الحركة الثانية تمضية الأيام برضا وهدوء بجانب النار، في حين تبلل الأمطار بالخارج الناس بالمئات.
وفي الحركة الثالثة يسير الناس بحذر على الطرق الجليدية خوفاً من الانزلاق، ليقع الناس على الأرض ويدورون حول أنفسهم، لينهضوا ويجروا خوفاً من تكسر جليد البحيرات تحت أقدامهم، ولتشن رياح الشمال الثلجية الحرب، وتخترق الأبواب المحكمة، ومع ذلك فإن للشتاء سعادته الخاصة به.

سيرة فيفالدي
ولد أنطونيو فيفالدي الذي لقب باسم (الراهب الأحمر) في 4 مارس عام 1678 بالبندقية، ويقال انه نظرا لتزامن ولادته مع زلزال ضرب المنطقة، نذرت والدته أن تقدمه لسلك الكهنوت. وكان لفيفالدي خمسة أشقاء، أما والده جيوفاني باتيستا الذي كان قبل أن يصبح عازف.
كمان محترفا حلاقاً، قد علم ابنه عزف الكمان في عمر مبكر ليرافقه في كافة جولاته الموسيقية بالبندقية. وكان والد أنطونيو من المؤسسين الأوائل لجمعية الموسيقيين، كما عرف كملحن أيضاً، حيث لحن بنفسه أوبرا (لا فيديلتا سفورتوناتا) عام 1689.
عانى فيفالدي في طفولته من اعتلال صحته، وواجه الكثير من أزمات التنفس الأشبه بالربو خلال وجوده في سلك الكهنوت، إلا أن مرضه لم يحل دون تعلمه العزف على الكمان وبعض آلات النفخ، والمشاركة في عدد من الفعاليات الموسيقية والتلحين.
ودخل السلك الكهنوتي عام 1693 حينما كان في الخامسة عشر من عمره، وبدأ الدراسة ليكون قساً. وفي عام 1703 وكان في الخامسة والعشرين صدر أمر بتسريحه لاعتلال صحته، وعاش ما تبقى من حياته كقس بروحه.

سنوات الإبداع
تسلم أول عمل له كمدرس كمان عام 1703 في ملجأ (مشفى الرحمة) للأيتام، وهو أحد الملاجىء الأربعة التي كانت تمولها جمهورية البندقية، والتي كانت تعلم الأيتام والفقراء الذين لم تستطع عائلاتهم أن توفر لهم المأوى، العديد من المهن، ليخرجوا إلى الحياة في سن الخامسة عشر مسلحين بحرفة تضمن لهم كرامة العيش. أما الفتيات فكن يدرسن الموسيقى، لتنضم الموهوبات منهن إلى عضوية المشفى وكورس وأوركسترا (أوسبيدل) الشهيرة.
وسرعان ما بدأ الأولاد يهتمون ويقدرون الموسيقى بعد انضمام فيفالدي لسلك التدريس، والذي كتب لهم العديد من الكونشيرتوز، والمقطوعات الموسيقية الخاصة بالكورس. وتنوعت هذه الأعمال القيّمة التي يقارب عددها من الستين، الغناء والعزف الفردي إلى الأوركسترا. وكانت العلاقة بينه وبين مجلس الإدارة متوترة بصورة مستمرة، حيث كان على أعضاء المجلس التصويت كل عام بشأن إبقائه في المشفى، كمدرس.
ولم يكن التصويت لصالحه عام 1709، ومع بقائه حراً لمدة عامين، تم استدعاؤه مجدداً بعدما أدرك المجلس أهمية دوره. وبات مسؤولات عن كافة الأنشطة الموسيقية، ليتم ترقيته إلى مدير الموسيقى عام 1716.
قدم فيفالدي خلال الثلاثين عاماً من عمله في المشفى أبرز مقطوعاته الموسيقية، وكان قد نشر أول مجموعة من أعماله (كونور كاسارا) عام 1705. وفي عام 1716 كتب وقدم عملين للأوبرا، وحقق ثانيهما (لا كوستانزا تريوفانتي ديغلي أموري إي ديغلي أودي) شهرة كبيرة وتم تقديمه مرة أخرى بعد عامين وفي براغ عاصمة التشيك عام 1732. وفي السنوات اللاحقة كتب العديد من أعمال الأوبرا التي قدمت في كافة أنحاء إيطاليا.
وواجه بسبب أسلوبه في الأوبرا، العديد من الصعوبات مع الموسيقيين المتحفظين، مثل بينيديتو مارسيلو الذي كتب العديد من المقالات التي يهاجمه فيها بصورة غير مباشرة. ويتضح من رسالة فيفالدي في إلى راعيه مارشيز بينتيفوغليو، أنه كتب ما يزيد عن 94 أوبرا لم يبق منا سوى 50.

النجومية والشهرة
حقق فيفالدي نجاحه وشهرته كملحن مع نشر مجموعته الأولى من الكونشيرتو في أمستردام عام 1711، والسبب في اختياره لأمستردام هو حفرهم للنوتات الموسيقية على ألواح ثابتة بدلاً من استخدام أسلوب أهل البندقية المتبدل في الطباعة. وكان فيفالدي وزميله ألبينوني أول الملحنين الإيطاليين الذين نشروا أعمالهم بهذه الطريقة.
لم يصل فيفالدي بشهرته خلال حياته إلى مصاف كبار الموسيقيين أقرانه مثل أليساندرو سكارلاتي، وليوناردو ليو وبالداسار غالوبي، حيث كان معيار نجاحهم يقاس بالفترة الزمنية التي تعرض خلالها أعمالها في بيت الأوبرا الرئيسي. أما أرفع المناصب التي حظي بها فكانت عام 1717، حيث كان مايسترو دي كابيلا في بلاط الأمير فيليب من هيسيه- دارمشتات، حاكم مانتوا، حيث بقي لمدة ثلاثة أعوام وأنتج عدة أعمال في الأوبرا من ضمنها (تيتو مانليو).
انتقل فيفالدي عام 1722 إلى روما، ليقدم أسلوبه الجديد في الأوبرا، وهناك عزف أمام البابا الجديد بينيديكت الثامن بدعوة من الأخير. وكانت الأوبرا آنذاك الفن الموسيقي الأكثر شيوعاً وشعبية، مما عاد عليه بالنفع الكبير خاصة مع تنافس عدد كبير من المسارح للاستئثار بالجمهور.
وكان حينذاك يساهم في تلحين مقاطع من الأوبرا بمشاركة مجموعة من الملحنين بإشرافه. وفي أواخر عام 1715 خطط لتلحين أوبرا كاملة بمفرده وحملت عنوان (آرسيلدا ريجينا دي بونتو)، ولم يعرض العمل إلا بعد عامين من إنجازه .
حيث منعت الرقابة العرض الذي يحكي قصة آرسيلدا التي تهوى امرأة أخرى تتنكر بزي رجل، واستطاع فيفالدي إقناع لجنة الرقابة بالموافقة على العمل بعد مضي عام من منعه. وما إن عرضت الأوبرا حتى حققت شهرة واسعة لها ولملحنها سواء على الصعيد المحلي أو الأوروبي وسافر في سنواته الأخيرة بكثافة. ويُحكى
عن حبه لمشاهدة افتتاحيات أعماله في الأوبرا، التي كانت تغني في أغلبها المشدة آنا غيرو التي اعتقد بأنها عشيقته لظهورها معه في العديد من أعماله مابين 1723 و1748.

فيفالدي الإنسان
احتفظ فيفالدي طيلة حياته بسمعة الراهب لتقواه، وإن لم يكن متقشفاً، فقد كان يحب المال، وما يصرفه محسوب ومدروس مقابل ما يكسبه. وكان معتداً بمظهره الخارجي، وسخياً بالصرف على لباسه، ولم يكن يسافر إلا بالدرجة الأولى ويقيم في أرقى الفنادق. ويعتقد بعض الباحثين أن هذا الحرص كان بسبب أزمات الربو التي يعاني منها.
وعلى الرغم من سعادته بالشهرة وبقدر من الثراء في أوج عطائه وإبداعه، إلا أنه عانى من مجموعة صعوبات في السنوات الأخيرة من حياته، حيث واجه خلال ونهاية عام 1730 عدد من الخيبات إذ فشلت أعماله الأوبرالية في كسب استحسان الجمهور لأسباب ترتبط بإنتاجها. وفي عام 1738 رفض مشفى الرحمة تجديد عقده، بسبب سفره المتكرر.
وفي ضوء هذه الصعوبات قرر فيفالدي عام 1740 ترك إيطاليا إلى فيينا. ولم يعرف إلا ما هو قليل عن رحلة فيفالدي الأخيرة وما عمله في عامه الأخير بالنمسا. وكان عند وفاته في 28 يوليو عام 1741، قد أنفق جميع ثروته النقدية. وسرعان ما خبا نجمه في خضم مرحلة نبذت موسيقى الباروك لصالح الموسيقى الكلاسيكية التعبيرية في منتصف القرن الثامن عشر. وبعد مضي مائة عام عاد اهتمام الأكاديميين به وبموسيقى عصره.
سيرورة أعماله
أما قيمته الفنية فلم تقدر إلا بعد مضي 200 عام على وفاته، وكان ذلك عام 1926، حيث ظهر في إيطاليا أهم اكتشاف في تاريخ الموسيقى. وكان ذلك حينما دعا أحد الأديرة في إيطاليا، مجموعة من خبراء المكتبة الوطنيــة تورين، بغية تقييـــم مجموعة من المخطوطات بهدف بيعها لتغطية تكاليف بعض الإصلاحات في الدير. وسرعان ما أدرك الخبراء قيمة الكنز الكامن في تلك المخطوطات التي كشف عن مجموعة من أهم المقطوعات الموسيقية لذاك القرن، وكان معظمها لفيفالدي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق