الجمعة، 25 مايو 2012

ما هي الحكمة ؟ ومن هو الحكيم



ما هي الحكمة؟ وكيف تكتسب ثقافتها؟ هل هي نتاج الجمع بين المعرفة وتجارب الإنسان الشخصية وتجارب الآخرين؟


هل هي هبة من الله؟ هل الإنسان الحكيم مع من تخلو حياته من المحن والهفوات؟ أم هي مرهونة بتبني مجموعة من المبادئ والقيم التي لا يحيد عنها الإنسان طيلة حياته؟


إن الإنسان يبدأ بتلمس مسار الحكمة حينما يتجاوز عتبة الأربعين من العمر، والمدخل الأسهل لفهم الحكمة هو البدء بتعريفها المتمثل في الإدراك والفهم العميق للنفس البشرية والأشياء والأحداث والظروف، وقدرة العقل على اختيار الحل أو المسار الأفضل بأقل الخسائر وزمن وطاقة، والسيطرة على المشاعر وردود الفعل.
الحكمة ليست بمفهوم مطلق، فهي مرهونة بالزمن وبحدود المعرفة التي بين يدي الإنسان لدى اتخاذ القرار أو الاختيار، فما كان صائبا في حينها، يبدو بعد اكتساب المزيد من التجربة والمعرفة، منقوصاً.


أما نشدان المعرفة فيتجلى في الحوار التالي بين الفيلسوف والحكيم الإغريقي سقراط (‬469 ؟ ‬399 ق.م.) وتلميذه:
(سأل شاب سقراط: كيف حصلت على الحكمة؟ فأجابه سقراط: تعال معي. وهكذا أخذ سقراط الشاب إلى النهر وأمسك برأسه بعد أن غمره بماء النهر، ولم يفلته حتى لهث الشاب طالباً الهواء.

وعندما استعاد رباطة جأشه سأله سقراط: ما الذي كنت ترغب فيه عندما كان رأسك تحت الماء؟ فأجاب الشاب:
أن أتنشق الهواء، عندها قال له: عندما تريد الحكمة بقدر ما أردت الهواء ورأسك تحت الماء، ستحصل عليها.وغالباً ما يربط الإغريق بين الحكمة ومجموعة من المثل، كالفضيلة والشجاعة والتواضع.

وكان الفلاسفة والمفكرون القدماء على قناعة بأن التدريس يساعد المدرس على الارتقاء بحكمته. ويعتقد آخرون بأن الحكمة تعني إدراك ما يتوجب عمله وإنجازه بنجاح، دون الحاجة لأن يُطلب منه ذلك.

مفهوم الحكمة

وكان الاعتقاد السابق لدى الأغلبية من العامة أن امتلاك الحكمة يعني تحرر الروح من الآلام، لكن التجربة التي عاشها الكثيرون من طالبي الحكمة أكدت خطأ هذا الاعتقاد، فالحكيم يتألم أضعاف الإنسان العادي، فهو يعيش الصراع بين نوازع النفس والصورة الأشمل، كما يدرك في الوقت نفسه أن الانفعال المباشر وإطلاق العنان لمشاعره الآنية أيا كانت ومنها الغضب، سلاحاً ذو حدين، فمتى يُحرِرُ غضبه ومتى يلجمه.

وعليه يفترض بالحكيــــم أن يـــرى ويتعامـــل مع تفاصيـــل المحيط من خلال بصيرتـــه واستقرائــــه للمستقبـــل، بصرف النظر عن قراءة الآخرين لحكمته على أنها ضعف أو تهاون).

واستقراء المستقبل يحمل في طياته مواجهة حقائق جارحة، على الحكيم استباق الزمن في التأقلم معها، خاصة في زمن متسارع باطراد، ومزدحم بالتحولات والتناقضات والقيم المتغيرة باستمرار!! ومثالاً على هذا الصراع، نورد فيما يلي رسالة كتبها أحد الأشخاص ممن ينشدون الحكمة:

تتدافع الكثير من الأفكار داخل صندوق الدماغ الصغير، الذي لا يعرف صاحبه كيف يحتويها أو يصنفها، خاصة وأنها تعصف بأية قدرة على ضبطها أو تحليلها. ولو كان سبب ذاك الإعصار معروفا، لهان الأمر وتمكن الفكر من إيجاد صيغة أو برمجة لاستيعابه.

حاول كائن ذاك الصندوق خلال الإعصار الأخير الذي فاجأه، البحث عن حلول دون جدوى، وآخرها كان الاختلاء بنفسه والاستسلام لحالة التأمل. وحينما شعر بالعجز، أدرك أن الحل الوحيد أمامه لحل هذا اللغز، هو الكتابة أسوة بكل لغز استعصى عليه في مسيرة حياته.

وهو على إدراك تام أن الكتابة لا تضمن له بالضرورة الاهتداء إلى البرمجة الكفيلة بضبط الفوضى، بقدر ما تساعده على تحرير نفسه من العبء الثقيل على الروح، التي تدفع بكائنها إلى العزلة والزهد بالحياة.

ومع خط الكلمات الأولى، بدأ بمواجهة إشكاليات العالم الخارجي وترسيم حدوده، مقارنة بمواجهة الألم الغامض الذي يعتصر الروح ويرهق الجسد، والعجز عن إيجاد الدوافع التي تضعه في دائرة الألم دون إرادة منه، خاصة وأنه إنسان يؤمن بالفرح والتفاؤل.

في تلك الدوامة التي هيمنت على عقل الكائن لأيام، لمعت في ذهنه الحقيقة على حين غرة وكانت بمثابة (ومضة تنوير)، ومفادها أن اكتساب الحكمة مرهون بالألم ووجع الروح ومواجهة النفس واكتشافها والصبر).


حكمة كونفوشيوس

تبعاً للفيلسوف الصيني كونفوشيوس (‬551 ؟ ‬478 ق.م.) الذي يُعرِّف الحكمة على أنها (فهم الناس)، يمكن تعلمها بثلاث طرق:

(الانعكاس) وهو أنبلها، و(التقليد) أسهلها، و(التجربة) أصعبها. ويرى بأن الحكمة لا تُقال إن لم تُسأل من قبل الغير. وهذا يعني أن الرجل الحكيم لا يتحدث أبداً عن حكمته إن لم يطلبها شخص منه فرداً لفرد.

وتبعاً لمذهب السببية قال كونفوشيوس، (حب التعلم ضروري للحكمة)، حيث أن التفاعل مع الحياة ضروري للإنسانية، كما الشعور بالخجل من النفس والاعتراف بالخطأ ضروريان للشجاعة.

الحكمة المعاصرة
إن تعريف الحكمة لدى المفكرين المعاصرين فيرتبط جوهرها بالقدرة على إدراك قيمة الحياة وجدواها سواء على الصعيد الشخصي أو العام.وتقول الدكتورة الأميركية أنجليز آريان المتخصصة في العلوم الإنسانية، التي تصف مسار الحكمة في شخصية الفرد بقولها (من المثير للاهتمام أن تكون حياتنا في مرحلة الشباب بمثابة الفصل الأول من مسرحية، ومنتصف العمر الفصل الثاني، أما الثالث فيحمل جميع الحلول والتجليات.

وفي هذه المرحلة المشوقة من العمر تمسك جميع الخيوط والحلول التي إما تنتهي بمفاجأة كوميدية أو تراجيدية. ويشبه ذلك ما قاله الكاتب والشاعر الإيرلندي أوسكار وايلد (‬1854 ؟ ‬1900)،(كن نفسك، فالآخرون أخذوا كافة الأدوار).
أما الفصل الثالث فهو بمثابة فرصة للبحث عن حقيقة النفس بعيداً عن التوقعات والأحلام، والتأمل في الرحلة التي قطعتها الروح في محاولة الكشف واكتشاف ما هو مهم بالنسبة لنا.وانطلاقاً من أن الحكمة لا تأتي من عبث أو مع تقادم العمر وكونها بمتناول الجميع.


الحكمة في الشرق

ذكر الكاتب السوري بندر عبدالحميد في مقالة له عن الشاعر الفارسي عمر الخيام (‬1048 - ‬1131)، (شكلت الطبعـــات المتواليــــة لترجمة رباعيات الخيام، منذ الستينات في القرن التاسع عشر، انقـــلابـــاً واضحــاً في الثقافــــــة الأوروبيــــــة والعالميــــــة، وتجـــاوزت تأثيراتهـــا الحياة الثقافيـــــة إلى الحيــــــاة الاجتماعيــــــة العامة.

وانتقلت من اللغة الانجليزية إلى اللغات الأخرى بشكل لم يسبق له مثيل، وقيل إن الأعداد الخيالية للنســــخ المطبوعـــة تجـــــاوزت كل نســــــخ الكتب الأكثر شهــــرة باستثنــــــاء الإنجيـــل،.وليس غريبـــاً ان تترك تأثيراً على حركة التجديد في الشعــــر الأوروبـــي عامـــة، وفي الشعــر الانجليزي المكبــــل بالقيود الكلاسيكيـــة وتقاليد العصــــر الفيكتوري).

(والسبب الأول في هذا النجاح والتقدير هو ما تحمله هذه الرباعيــات، ولهذا اقبل على قراءتها حتى أولئك الذين لا تربطهـــم بالقــراءة أية علاقة.وإذا كان الخيــــــام قد اخذ لقب الحكيـــم في الثقافتين الفارسيـــة والعربيـــة، فان الأوروبيين أعطـــوه لقب (ملك الحكمة)، واختطـــــف الأضـــــواء من شكسبير لفــترة طويلــــة.

ولكن إعادة اكتشافـــه في الثقافتين الفارســـية والعربية، اللتين ينتمـــي إليهما الخيام، تأخرت أكثر من نصف قرن عن اكتشافــــه في أوروبـــــا والعالم، وعسى أن يكون نصف القرن هذا، هو الفــرق الزمني الحضاري بين الغرب والشرق، وليس أكثر).

حكمة العرب

تتجلى الحكمة المعاصرة في الأدب العربي، في أفكار الكاتب قاسم أمين (‬1865 ؟ ‬1908) الذي اعتبر زعيم الحركة النسائية في مصر، بدفاعه عن الحرية الاجتماعية وبدعوته لتحقيق العدالة والتربية في سبيل النهضة القومية إلى جانب مطالبته بتحرير اللغة العربية من التكلف والسجع،.

وأبرز مقولة له في هذا الإطار (أقل مراتب العلم، ما تعلمه الإنسان من الكتب والأساتذة، وأعظمها ما تعلمه من تجاربه الشخصية مع الناس والأشياء).

ومن أبرز الشعراء القدامى الذين تناولوا الحكمة في أشعارهم، زهير بن أبي سلمى (‬520 - ‬630)، فقد نصب زهير نفسه في شعره قاضياً وحكماً، وأخذ على عاتقه إصلاح مجتمعه، فعمد إلى الإرشاد والنصح. ونطق بالحكمة مضمّناً لها عقيدته ومذهبه في الحياة، وجعل من حكمته هذه دستوراً مفصّلاً لتهذيب النفس، وحسن التصرف والسياسة الاجتماعية البدوية.

عاش زهير أكثر من ثمانين عاماً فعرف الحياة وخبر حلوها ومرّها، فأملت عليه شيخوخته الحكيمة الهادئة، وخبرته الواسعة، وغيرته على الإصلاح القبلي، آراءه الحكمية، وزاد عليها ما سمعه من أفواه الناس.

كانت حكمة زهير وليدة الزمن والاختبار الشخصي والعالمي البعيد عن ثورة العاطفة واندفاع الأهواء، وليدة العقل الهادئ الذي يرقب الأحوال والناس ويستخلص الدروس التي توصل إلى سعادة الحياة.

كما اشتهر الشاعر طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة )‬539 - ‬564) بحكمته في أدب الجاهلية، على الرغم من صغر سنه فقد قتل وهو في السادسة والعشرين من عمره. ولعل الدافع لاكتسابه الحكمة يتمثل في ظروف نشأته حيث كان يتيماً من أبيه حيث كفله أعمامه.

لكنهم لم يعوّضوه عن فقدان الأب بل حُكي أنهم اضطهدوه، فجعله ذلك متفرّداً منكفئاً على ذاته، متحللاً بفطرته من التقاليد الاجتماعية ؛ ودفعه ذلك لأن يقول معلقته الخالدة التي ورد فيها:

وَظُـلـمُ ذَوي الـقُـربـى أَشَـدُّ مَضاضَةً
عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق