الأحد، 5 أغسطس 2012

الحنين .. عناق للوهم أم الحقيقة؟

حالة وجدانية محفزها الرغبة في ترميم ما شطره الدهر




رشا المالح
5 أغسطس 2012

هل مشاعر الحنين مكتسبة أم مجرد أحاسيس فطرية؟ أترتبط بجوانب الفقدان وذكريات الماضي حصراً، أم هي جزء من المشاعر الرومانسية التي تتصل بخيبة الأمل والفشل؟ وهل يحرك الحنين المشاعر أم أن العكس هو الصحيح؟ وماذا عن حقيقة كونه الوجه النقيض للقناعة والرضا؟ ومتى يمكن أن يتحول إلى حالة مرضية أو مستعصية؟



ترتبط مشاعر الحنين التي توصف بـ (الحلو المر) في جوهرها، بالطبيعة وجغرافية المكان ومحيط البيئة. وأما مدى تأثرها، فهو يتناسب طرداً مع التغيرات التي يتعرض لها الإنسان، سواء بإرادته أو بدافع قسري، فأي انسلاخ مفاجئ عن أحد الروابط السابقة، مصيره أن يسبب للإنسان صدمة نفسية أو ثقافية، تشكل فجوة في مشاعره يتسلل إليها الحنين مع مرور الزمن، خاصة إذا كانت النقلة الجديدة، لا تحقق لصاحبها رضا أو سعادة.

كان الحنين فيما مضى مرتبطا بالوطن والأهل والصبا، إلا أنه بات في الأزمنة الحديثة، حالة مزمنة لا علاج لها، خاصة مع النظريات الحديثة للعولمة التي روجت لمستقبل طوباوي.

حيث بات الحنين أكبر من احتواء الإنسان له، فهناك الحنين إلى الأزمنة التي كانت الإنسانية والمثل تحظى بقيمتها، وكذا إلى إيقاع حياة أكثر هدوء وبساطة وأقل تنافساً وشراسة. والأكثر خطورة هو حنين الإنسان إلى إنسانيته أو روحه التي باتت منفية عنه، بحكم اليوتوبيا المستقبلية.



ملامح الحنين

كان للحنين في الماضي أوجه معروفة الملامح، فهناك الحنين إلى الوطن الذي يعيشه المغتربون والتجار والجنود الذين يغادرون بيتهم أو بلدهم لزمن غير محدود، وكذلك الحنين إلى الحبيب والأهل والخلان وأطلال سكناهم، وأيضا: الحنين إلى زمن الصبا وعنفوان الحياة، والحنين إلى زمن الشهرة والنجاح.

وكان النوع الأخير يحمل الكثير من عذوبة المشاعر والذكريات الجميلة التي ألهمت الفنانين وتغنى بها الشعراء في قصائدهم والأدباء في رواياتهم، والموسيقيون في روائع ألحانهم. يتحول الحنين، أحيانا، إلى حالة مرضية مزمنة أو مستعصية لها طابع رومانسي في مخيلة صاحبها، وذلك تحديدا، حين يصبح مصطبغا ومقترنا بغاية في حد ذاتها، فإن كان الحنين هنا إلى الوطن أو الى الأحباء، فإن العودة أو اللقاء ينفيان وجع الحنين، وسرعان ما يستبدله صاحبه بحالة أخرى تخدم الغاية نفسها.

وتشبه هذه الحالة عــوارض من يستعذب لعب دور الضحية، فيرفض الخروج من إطارها. ومن يسمـــح لمشاعـــر الحنيــــن في الهيمنة على تفكيره والاستحواذ على مساحة أكثر من هامشها الطبيعــــي، يبدأ بالانفصال عن واقـــع الحياة ليعيش في عالم وهمي افتراضي، مع فقدان التفاعل مع المحيط، وبالتالي الرغبة في الحياة، لتتفاقم حالته وتتحول إلى اكتئاب مرضي.

ذاكرته

يرتبط الحنين بذاكرة الإنسان وما تختزنه من ذكريات جميلة عاشها صاحبها في ما مضى. ويعتبر هذا النوع من الحنين حالة فردية، وذلك في مقابل الحنين الجمعي.

والذي، إما يرتبط بجيل أو بشعب أو بظاهرة تخص مرحلة ذهبية في حضارة ما، وأكبر مثال عليه تشرد أبناء وطن ما عن ديارهم، بسبب الغزوات والحروب أو الكوارث، ذلك مثل تهجير الشعب الفلسطيني، والحنين إلى أفلام الأبيض والأسود، والتي تعتبر ذاكرة جمعية بين الشعوب، وروائع الأدب والموسيقى التي تعد ذاكرة تجمع بين الشعوب والأجيال وأزمنة الإبداع.

وكان الحنين موضوع اهتمام العديد من الأطباء والباحثين والفلاسفة، منذ القرن السابع عشر، حتى وإن خبا هذا الاهتمام بين عصر وآخر. وقدمت الباحثة الروسية، الدكتوره سفيلتانا بويم، المتخصصة في مجال اللغات السلافية والأدب المقارن في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، أخيرا، دراسة هي نتاج سنوات كثيرة من البحث والدراسة.

توضح فيها أنه هناك نوعين من الحنين، أولهما الحنين التأملي الذي لا يسعى إلى استعادة الماضي، إذ يمثل شعوراً إيجابياً يساعدنا على الكشف عن مكنونات تجارب الماضي ومغزاها، وهو ما يسهم في تقبل الحاضر بصورة غير نقدية.

وتجد سفيلتانا، في النوع الثاني: الحنين الاستعادي، خطورة تتجاوز الذكريات وزمنها، وتتمثل في الإرث والتقاليد، والتي غالباً ما تكون شكلية وبعيدة عن الأصالة، ولا تحمل مصداقية، ذلك مثل منتجات الهدايا التذكارية من شركة والت ديزني الأميركية، التي تقدم بهدف الربح التجاري، تذكارات من مدينة والت ديزني، إلى مجموعات من الأطفال، إما لم يتشكل وعيهم العالي بعد، أو أنهم لم يزوروا تلك المدينة.



أنواع

وأكدت دراسات عديدة، أن الحنين مرتبط بستة أنواع من المشاعر، وهي: الحنان والانزعاج والعزلة والفقدان والخوف والصفاء. وتشكل فيما بينها، خليطاً من المشاعر الإيجابية والسلبية. ومن منظور الجانب الإيجابي، يحمل الحنين بعداً من المشاعر السلبية، كالضيق والخوف من فقدان جماليات الماضي. وأما من منظور الجانب السلبي، فيحمل جملة مشاعر دافئة ومشرقة.

تتفاوت حدة مشاعر الحنين، مثل الخوف والفرح، بين شخص وآخر، تبعاً لظروف الحياة والعمر ونفسية الإنسان، فمشاعر الحنين عند الإنسان المادي أو المستقر عاطفياً واقتصادياً، تكون أقل قوة وتأثيراً، مقارنة بنظيره المتقدم في العمر أو المغترب أو غير المستقر.

كما يتم استثمار حالة الحنين في سوق التجارة وصناعة الإعلانات، حيث يتم، بين الحين والآخر، إعادة إنتاج ما كان رائجا في زمن مضى، من : الأزياء والموسيقى والسينما والسيارات، ليشكل الحنين بهذا، دافعاً لدى نسبة كبيرة، نحو اقتناء صورة تجسد ماضيهم.

تبقى مشاعر الحنين لدى الإنسان، في حالة سبات أو كمون، حتى يواجه مؤثرات خارجية، توقظها دون إرادة منه. ومن أبرز هذه المؤثرات: الموسيقى والعطور والاحتفالات المرتبطة بالشعائر الدينية. فكم من أغنية لأم كلثوم وعبد الوهاب، دفعت مستمعيها إلى إطلاق الآهات والحسرات على زمن كان للحياة فيه إشراقة وألق؟!

وكم من متابعين يحنون إلى الأفلام القديمة في السينما المصرية بالأبيض والأسود، من يوسف وهبي وحسن فايق إلى هند رستم وفاتن حمامة وسعاد حسني؟



الحنين في الشعر

كان الحنين إلى الديار والأم والحبيبة، وإلى الأصدقاء والأمكنة، منبع إلهام عدد كبير من الشعراء والأدباء العرب في زمن الجاهلية وفي المهجر. ويتجلى هذا الحنين في الزمن الجاهلي، كما هو في المعلقات، وفي شعر امرئ القيس الذي يعد أشهر من بكى على الأطلال وذكرى الديار، واستبكى الرفاق عليها حيث يقول:

أجـــــارتنــــــــا إنــــــا غريــــبان هـــــا هنـــــــا وكل غريــــب للغـــــريب نسيـــب

وفي العهد الأموي، تجلى الحنين في العديد من قصائد الغزل العذري، كما ورد في قصيدة لجميل بن معمر( جميل بثينة)، يقول فيها:

وأغنى أدباء المهجر، المكتبة العربية بروائع الأعمال والقصائد التي تفردت بقيمتها وجماليتها اللغوية والفكرية، ذلك كما في أدب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وغيرهما.

وأيضا، أيقظت أحداث الأندلس المضطربة، في زمن الحكم العربي لإسبانيا، وبعد ان بدأ الإسبان الهجوم على الممالك، أيقظت في نفوس الشعراء، أحاسيس الحنين الزماني، ذلك خلال فترات انتقالهم من مدينة أصابها الخراب إلى أخرى لا تزال مستقرة، ومن ثم تلحق بها.

وبعدما اعتمد كل ملك من ملوك الطوائف على طائفة تضمر العداء إلى طائفة أخرى. وتجلت في أشعارهم، آلام ما حدث، والغربة والإحساس العميق بالضياع في مجتمع انهارت دعائمه وأركانه، وفي هذا الصدد، يقول أبي محمد بن مالك القرطبي:

وإنَّما العذرُ لي أن جئتُ في زمنٍ لا الجيلُ جيلي ولا الأزمانُ أزَماني



جبران والحنين

يتجلى نوع آخر من الحنين عند الفيلسوف العربي، جبران خليل جبران، والذي يحكي عنه في إحدى رسائله إلى مي زيادة، بتاريخ 5 تشرين الأول 1923: آه لو كنتِ تعلمين مقدار تعبي مما لا لزوم له. لو كنت تعلمين مقدار حاجتي إلى البساطة. لو كنت تعلمين مقدار حنيني إلى المجرد، المجرد الأبيض، المجرد في العاصفة، المجرد على الصليب، المجرد الذي يبكي لا يستر دموعه، المجرد الذي يضحك ولا يخجل من ضحكة- لو تعلمين، لو كنت تعلمين.

قدم المخرج الأميركي جورج لوكاس في بدايات دخوله صناعة السينما، فيلم (أميريكان غرافيتي)، الذي شكل ظاهرة مختلفة من الحنين بين الشباب، لدى عرضه في العام 1973. وتمثلت تلك الظاهرة في حنين الشباب المراهق في السبعينات إلى زمن الخمسينات من القرن الماضي، والذي لا تملكه ذاكرتهم، لتنتشر ثقافة جديدة تعيد زمن تلك المرحلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق