تتمثل تجربة ماريلين الإبداعية في رواياتها الثلاث؛ «التدبير المنزلي» التي صدرت عام 1980، «جلعاد» عام 2004، «البيت» عام 2008. وذلك إلى جانب مؤلفاتها في الأدب الواقعي، التي تشمل عروضاً للكتب ومقالات ودراسات نشرت في أبرز المجلات والصحف، ومن ضمنها، كتابها الثاني «البلد الأم : بريطانيا ـ دولة الرفاهية والتلوث النووي»، الذي سلطت فيه الضوء على الأضرار البيئية الجسيمة، التي أحدثها مصنع إعادة تصنيع الوقود النووي في مدينة سيلافيلد.
هل تلك زيارتك الأولى إلى بلد عربي. وماذا عن انطباعاتك؟
لم يكن لديّ الكثير من التوقعات قبل قدومي، واعتبرت زيارتي بمثابة تجربة جديدة. وما أثار إعجابي على أرض الواقع تطور وتقدم الإمارات في زمن قياسي، خاصة في ما يرتبط بازدهار الثقافة ورعايتها. كما استمتعت كثيراً بالشخصيات التي التقيت بها في هذا المجال.
تصنيف
يقال إنه لم يعد يوجد في الغرب، كتّاب أدب كلاسيكيون، بفعل غياب عمق المعاناة الإنسانية. هل هذا صحيح؟
لا أعرف. من الصعب تحديد مثل هذا التصنيف فالحكم النهائي للتاريخ. أما في ما يتعلق بالمواضيع الإنسانية المعاصرة، فأعتقد أن أوروبا غنية بالتجارب التي تتناول القضايا الإنسانية وحقوق الإنسان. بصورة عامة، وعلى مر التاريخ، هناك دائما الكثير من الكتب ونسبة قليلة من الأعمال الأدبية الإبداعية.
هذا السؤال يعيد إلى ذاكرتي ما قرأته أخيراً في كتاب عن الأدب الأميركي الكلاسيكي. ويستحضرني انتقاد الروائي ناثانيال هوثورن (1804 1964)، لحال الأدب في عصره، إذ اشتكى من كثرة النساء اللواتي اقتحمن عالم الأدب بكتاباتهن. نحن لا نعرف ما الذي سيبقى من الأدب وما الذي يغيب منه.
مذهب القراء
لماذا ترفضين المشاركة في تسويق أعمالك، هل تعارضين فكرة التسويق؟
شاركت في روايتي الأولى «التدبير المنزلي»، في خطة التسويق، لأني لم أكن معروفة بعد. ولكن بعد استقطاب شريحة واسعة من القراء، لا أجد ضرورة للمشاركة مرة أخرى، فالقراء يبحثون عن نتاج الكاتب الذي يقتنعون أو يُعجبون بأعماله. وأنا لا أرفض الفكرة من حيث المبدأ فهي تساعد وتدعم المكتبات الصغيرة، من خلال حفلات توقيع الكاتب التي تجذب نسبة أكبر من القراء، وهو رافدٌ مهم جداً في صناعة النشر، خاصة في السنوات الأخيرة.
هل أصبح أحد طلبتك، ممن درستهم الكتابة الإبداعية في جامعة أيوا الأميركية، كاتباً معروفاً؟
نعم. وبنسبة لا تقل عن 30 % من عدد من درّستهم، غدوا كذلك. وهي نسبة عالية، كما فازوا بالعديد من الجوائز الأدبية. وورشات الكتابة الإبداعية التي أدرّسها مدتها عامان ضمن أربعة فصول وتعادل درجة جامعية، وهي مدة كافية لاكتشاف طلبتي لقدراتهم وصقل موهبتهم.
أدوار ومهام
هل يشارك في الدراسة لديكم، طلبة من جنسيات أخرى؟
لدينا تنوع جميل في ثقافات الطلبة، فمنهم الجيل الثاني لمهاجرين من كوريا والهند، إضافة إلى آخرين من جزر الكاريبي، كما يتبدل الأساتذة في كل فصل.
كيف تساهم الرواية في تجاوز النزاعات العرقية والطائفية؟
يسهم عالم الرواية والأدب الإنساني العظيم المتخيل، في فتح آفاق تفكير الإنسان. والرواية الإنسانية ترتقي بوعي وأحاسيس الناس لدى تفاعلهم مع تجارب الآخرين، وفي الوقت نفسه تجعلهم يدركون ما هو قيّم وجميل في حياتهم، كذلك كيفية تفاعل الناس في محيطهم. باختصار، الأدب جزء أساسي في بناء الإنسانية في مفهومها العام والخاص.
أحد العوامل المشتركة في رواياتك، ربطك بين الطبيعة والجانب الروحي في شخصيات أبطالك. ما السبب؟
هذا الربط مهم بالنسبة إلي. لأنه حقيقي، والتشتت الذي يعيشه الكثيرون، يفقدهم الإحساس بما هو حقيقي وأصيل. فالإنسان جزء من محيط واسع. ونحن البشر لدينا أسلوب في تصغير ما هو رائع وخاص في حياتنا الإنسانية.
ثقافة تتكرر
ما الهواجس التي تحاربينها كروائية؟
الشك بقدراتي. وإن كان هذا الجانب ضروري كي يطور الإنسان قدراته ويتقدم. حين أكتب تختفي كافة الهواجس ومعوقات الإبداع، لأستغرق في محتوى ما أكتب. تظهر هذه الهواجس عندما أكون في المرحلة الفاصلة بين كتابين. وأكثر ما أخشاه وأنا أكتب، أن أتناول فكرة من دون تعمق وبحث فيها، أو بسرد نمطي أكرر فيه ما فعله غيري. بالطبع، نحن نعيش في إطار ثقافة لا بد وأن تتكرر الأفكار نفسها إلى حد ما، وما نحاول هو طرحها بمنظور آخر.
إيقاع الجمال
هل جماليات إيقاع وموسيقى السرد موهبة، أم أنها مهارة تكتسب؟
اللغة فن جميل بحد ذاتها، وبمثابة فعل في عالمنا. والجمال في القصيدة يتدفق من إحساس كاتبها بالجمال، الذي يعيد صياغته بلغته التي يحمل إيقاعها هذا الجمال.
اختزل معظم النقاد في الغرب، الجانب الروحي في أعمالك، بالديانة المسيحية. هل توافقين على ذلك؟
بالتأكيد لا. فالجانب الروحي موجود، لكن إحساسنا به أمر آخر. وإن قالت لنا الثقافات العصرية، ان لا نعير الجانب الروحي من حياتنا اهتماماً، فهذا يعني ضياعنا وابتعادنا عن أنفسنا وفقداننا لجماليات إنسانيتنا.
يقول " إيميس"، بطل روايتك "جلعاد": "كل منا لديه في داخله لغته الخاصة". كيف هو ذلك؟
لكل إنسان لغته التي يُشكل مفرداتها من تفاصيل حياته ومشاعره، والتي ترتبط بمؤثرات خارجية، كالمكان والموسيقى والمشهد، وفي أسلوب فريد يرتبط به وحده. وعليه، فحين يكتب عن هذا الجانب، يكتب بلغته الخاصة الغنية.
إحساس بالماء
استخدمت الماء كرمز أو مفهوم للتحول في أعمالك. لمَ الماء تحديداً؟
ارتبطت نشأتي بالماء. عشت طفولتي في جوار بحيرة ضخمة جميلة بين الجبال، شمال غرب الولايات المتحدة. وعلى الرغم من عدم حبي للسباحة أو الأسماك، إلا أن شغفي بجماليات الماء لا حدود له. قضيت زمناً طويلا في تأمل تلك البحيرة والينابيع الجبلية التي تجري إليها بمائها المنعش البارد. إحساسي بالماء يشبه المعجزة القائمة بيننا.
كيف تواجهين ضغوطات الحياة وتقلبات الحالة النفسية التي تعيق الكتابة؟
وجدت دوماً، في الأفكار التجريدية، كالتاريخ، ملاذاً. وحين تحاصرني الظروف، أقرأ شيئاً من القرن الـ 15، لأخرج من ضيق حصار ظرفي، إلى شيء أكثر رحابة وسعة وراحة.
مسار
ولدت الكاتبة ماريلين روبنسون، عام 1943، في ضاحية ساندبوينت التابعة لمدينة إيداهي، وبعد تخرجها من جامعة براون عام 1966، سجلت في برنامج اللغة الانجليزية للخريجين في جامعة واشنطن، وخلال دراستها، بدأت كتابة رواية "ربات البيوت"، التي حققت نجاحاً كبيراً لدى نشرها في عام 1981.
وكانت ماريلين، قد فازت بجائزة «بوليتزر» للأدب الروائي عام 2005، عن روايتها «جلعاد»، وهي عبارة عن رسالة مطولة من الواعظ الذي يبلغ السابعة والستين من العمر، موجهة إلى ابنه الوحيد، البالغ من العمر سبع سنوات، وتتناول من خلالها، حياة وأفكار وتجارب الأب وأجداده، في تلك المدينة الصغيرة التي تدعى إيوا.
نساء ووصايا عبر ثلاثة أجيال في رواية «التدبير المنزلي»
تبدأ رواية «التدبير المنزلي»، من بيت العائلة المنعزل في منتصف عام 1900، الواقع قرب بحيرة في ضاحية فينجربورن، في أقصى غرب مقاطعة إيداهو. وانتقلت بطلتها روث، أصغر نساء العائلة، برفقة أختها لوسيل، إلى تلك الضاحية، للعيش مع جدتهما.
وذلك بعد أن أحضرتهما والدتهما، هيلين، التي تركتهما على مدخل البيت، لتقود سيارتها باتجاه مدينة البحيرة نحو المرتفع المطل على البحيرة، ولتتوقف وتفتح نوافذ السيارة الخلفية. وتعاود قيادة السيارة مجددا حتى النهاية. وبذا تهوي بسيارتها في البحيرة، التي غرق فيها والدها سابقاً.
مصائر وخيارات
ربت الجدة الطفلتين، على قناعة بأن حياة ربة المنزل في بيتها، عالم المرأة وكينونتها، فالبيت وما فيه، عالمها الأوحد الذي منه تستمد وجودها وبقاءها.. كذلك حاميها. ومع وفاة الجدة تنتقل رعاية الفتاتين إلى عماتهما العوانس، لتستقرا أخيرا، مع العمة سيلفي. ودوما في البيت ذاته.
والعمة سيلفي، شخصية غريبة الأطوار وغامضة، توافق على العودة إلى فنغربورن لرعاية الفتاتين. وتبدو العمة في نظر الفتاتين في البداية، شخصية واهية لا تثير اهتمامهما، ولكن مع مرور الوقت، تبدو تصرفاتها لهما غير متوقعة ومحيرة. وتصمم لوسيل أن تختار لنفسها حياة محافظة، وعليه تنفصل عن العائلة، لا سيما عن العمة. أما روث، الفتاة الحالمة، التي لم تبلور أفكارها بعد، والتي انعزلت عن المحيط ولا تزال تعيش حالة الحداد بعد فاجعة فقدان والدتها، فتتجاوب وتنقاد لرؤى عمتها الشعرية.
فكرة مضللة
تتجسد رؤى العمة، من خلال ما ترويه روث عن نفسها بأن «فكرة جدتي التي اقتدت بها عمتي» المتجسدة في الرباط الوثيق بالمنزل، فكرة مضللة. من الأفضل أن لا نملك شيئا، حتى عظامنا سنفقدها يوما ما. وحين نكون بمفردنا، من المستحيل أن نفكر بغير ذلك". وفي النهاية، تحرق روث المنزل، وتغادر مع عمتها، الحياة الماضية، لتبدأ اكتشاف الحياة وحقيقتها، من خلال التجوال في عالم الحياة.
براعة
لم تصنف تلك الرواية ضمن الأدب الكلاسيكي الأميركي، استنادا إلى القصة وحدها فقط، بل لمهارة الكاتبة في : وصف الطبيعة ببراعة متميزة، ربط مصير شخصيات الرواية بتراث وجغرافية المنطقة المتمثلة بالبحيرة والجبال المحيطة بها، لغتها الشعرية التي وازت في جماليتها وقوتها القصة نفسها. إذ تتضح براعة الكاتبة في السرد بجلاء.
وهو ما أجمع عليه النقاد، مؤكدين أن أهمية تلك الرواية تكمن أيضا من خلال اللغة المختزلة المعبرة والشعرية، فقراءتها تشبه قراءة القصيدة. ومعها يحظى القارئ بمتعة توازي متعته بقراءة القصيدة، فبدلا من الاكتفاء بمتابعة قراءة السطور لمعرفة تطورات الأحداث، يتمعن القارئ في كل جملة وعبارة.