بيت الأشباح

بيت الأشباح
أدب الرعب

الخميس، 15 يوليو 2010

مقابلة مع الأديب ياسر المالح



ياسر المالح: ثقافتنا الحياتية اليوم مختلفة عما كانت لدى أجدادنا




يعبر مصطلح «ثقافة الحياة» بخطوطه العريضة عن أخلاق ومفاهيم وقيم وطبيعة الحياة. وما يتعارض معها هو أي سلوك أو منهج يتسبب في تدمير الحياة ابتداء بالقتل والحروب وانتهاء بالفقر والجشع والأنانية.









وكان (افتح يا سمسم) برنامجا تابعا لمؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي (الكويت)، بمثابة نقلة نوعية أو مفصل محوري في تشكيل ثقافة ووعي الطفل في مختلف بلدان العالم العربي، وكان الأديب السوري المخضرم ياسر المالح من كبار كتاب البرنامج والمشرفين على إنتاجه، ومن الذين ساهموا في تشكيل وعي الطفل وتربيته سواء في إطار التعليم والتوجيه أو في إطار الفن والأدب.مع تصاعد الجدل حول مفهوم ثقافة الحياة المعاصرة، في إطار غزو التكنولوجيا لعالم الإنسان والانفتاح على الحضارات الأخرى، وانعكاس هذا الانفتاح على الهوية وانتماء الإنسان إلى وطنه، التقت «مسارات» مع ياسر المالح، الخبير في الإعلام التربوي والإعلام البرامجي لدى اليونيسيف واليونيسكو، إضافة إلى كتابته للشعر والدراما.





البداية كانت مع تعريفه لثقافة الحياة بصورة عامة فقال: (يمر الإنسان عموما بمراحل مختلفة من الطفولة إلى الشباب فالكهولة وأخيرا الشيخوخة. الإنسان في المحصلة ابن البيئة التي يعيشها. وأول ثقافة يكتسبها من أسرته، الأب والأم والأخوة وبعدها الأقارب لتتسع الدائرة مع الزمن). وأضاف: «هذه الثقافة بيئية شفوية على الأغلب، ليس فيها أكثر من نقل رأي حول مشكلة أو أمر ما. وهي ليست الثقافة بمفهومها الواسع لمن يريد أن يرتقي بنفسه. الارتقاء بالنفس يحتاج إلى ثقافة أعلى يصل إليها الإنسان من خلال أمرين. أولهما الرغبة الداخلية في تجاوز ثقافته الأكاديمية، ليبدأ بالقراءة.





والقراءة تبدأ مما هو مكتوب في الصحف والمجلات إلى الكتب الكبيرة سواء كانت علمية أو فلسفية أو دينية ليختار منها ما يريد. أما العامل الثاني فيعتمد على السفر والاطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى. والإنسان يعبر عن نفسه من خلال الثقافة التي يكتسبها».





ثقافة الحياة الحديثة





وانتقل ياسر المالح بعد ذلك للحديث عن مفهوم ثقافة الحياة الحديثة فقال: «تبدأ الثقافة عمليا من الحياة اليومية بين زوج وزوجة في البيت، في مفهوم التعامل بينهما كذكر وأنثى، وهما بحاجة إلى أرضية من الثقافة لتقارب الأفكار والمفاهيم، واحترام أحدهما للآخر.





قد يختلفان أو يتفقان، والثقافة الحديثة مرهونة بمقياس الاختلاف في الرأي مشكلة». وتساءل قائلا، «لماذا علينا جميعا أن نفكر بنمط واحد.





اختلاف الأفكار حالة صحية على أن تكون خلاقة وتعني شيئا». ومن ثقافة العائلة إلى ثقافة السوق والتعامل مع الناس أعتبر ياسر المالح أن نتاج هذه الثقافة يتأتى من خلال التعامل مع البائعين وسائق التاكسي والتاجر. وثقافة التعامل هذه، تحددها الحجة أي أن ثقافة السوق تتصل بمصلحة التاجر أو الصناعي أو المشتري.





وهي ثقافة مهمة وضرورية تتجاوز في معظم الأحيان دعايات الإعلام إلى القيام بدراسة حول المنتج الذي يرغب المستهلك بشرائه كالسيارة مثلا، وذلك كي لا يشعر بالغبن. وتتميز علاقات ثقافة السوق عموما بكونها غير انتقائية وفي التواصل بين الأكبر والأصغر والمثقف بغير المثقف.





ثقافة السياسة نوعان





وعن ثقافة السياسة يقول المالح أنها نوعان: نوع ينبع من الالتزام بسياسة معينة كحزب أو طائفة وغير ذلك. أي سياسة محددة بتفكير جهة سياسية ما. ونوع آخر هو سياسة لا ترتبط بأحد، ثقافة معلوماتية عن توجهات العالم كأوروبا والعرب وأميركا.وعن ثقافة العرب الإقليمية حسب تعبيره، يميل إلى أنها ليست عالمية بالمعنى الذي نعلمه. فالإعلام المرئي والمسموع والمقروء يقدم الأخبار وبناء عليه يتخذ الفرد موقفه.





وأضاف، «في رأي ثقافة السياسة عند الآخرين وليست عندنا أو عند أميركا. فالشعب الأميركي لا يعرف ما خلف حدود أميركا من سياسات إلا النزر اليسير. أما ثقافة الأوروبي أفضل وأوسع لانفتاحها على الحضارات المجاورة».





التكنولوجيا عدو أم صديق





وبانتقاله إلى ثقافة التكنولوجيا التي تثير مخاوف العالم العرب أكثر من غيره قال، «باتت ثقافة الحياة اليوم على علاقة وثيقة بالتكنولوجيا، بدءا بالموبايل ودوره في الحياة اليومية. فهذا الجهاز الصغير يسيطر الآن على ثقافتنا اليومية. وأقول هذا لحاجة الناس لهذا النوع الصغير جدا للتواصل مع بعضهم».





ويشير إلى أن الثقافة اليومية الحياتية باتت متوفرة للفرد العادي أيضا ولم تعد محصورة بالمثقف. وأعطى مثالا على ذلك بقوله، «عامل النظافة في بلدي يتحدث بالهاتف المتحرك. صارت التكنولوجيا سهلة الاستخدام والحمل ومتوفرة للجميع. وباتت المعلومات المطلوبة في أي إطار متوفرة للجميع».





وبخصوص سلبيات تلك الثقافة، قال أن هذه التكنولوجيا منعت التواصل الفعلي بين الناس التي اكتفت بالتواصل الهاتفي، حيث أضحت الرسائل الهاتفية بديلا للزيارات كما يحدث في الأعياد. وتابع قائلا، «العالم في تطور، والإنسان يتأقلم مع التطور التقني ويريد المزيد حتى لدى كبار السن. باتت ثقافة الحياة معها غير محدودة وتتسع لكافة أرجاء العالم والخوف من أن تصبح بديلا عن الآخر».





التخوف من ضياع الهوية





وفيما يخص المخاوف السائدة بشأن ضياع الهوية المحلية نتيجة الانفتاح، أكد أنه ما مبرر لتلك المخاوف على الإطلاق وقال، (لو تتبعنا التاريخ من بدايته إلى اليوم لما وجدنا على الرغم من الحروب والقتال والغزو أن دولة أو أمة ما فقدت هويتها).





(فالعرب عانوا الغزوات على مر التاريخ ولقرون أحيانا، ومع ذلك لم يفقدوا هويتهم. الهوية لا تضيع فهي جزء من كياننا، هي شعور شخصي. في أميركا اللاتينية العديد من العرب ومنذ أجيال لكنهم لم يفقدوا هويتهم حتى اليوم).





ويؤكد المالح قائلا، «التحدث بلغة أخرى لا يفقدني هويتي. الهوية شعور يخلق مع البيئة التي ينتمي إليها الإنسان، الأسرة والمكان والتاريخ القديم الذي هو إرثه. الهوية هي أنا والمكان الزمان». ويؤكد أن التحدث بكل لغات العالم أمر إيجابي، فما المانع من أن يستعير الإنسان من ثقافة الآخرين الذين سبقونا بمئات الأشواط! ألم يستعيروا من ثقافتنا فيما مضى؟.





وأعطى مثلا على ذلك بقوله، «في أيام الانتداب الفرنسي بسوريا، كنا أطفالا في الابتدائية، وكنا نخرج من المدرسة مجموعات بأناشيد وطنية ضد فرنسا.





وكان العسكر أو الدرك الفرنسيون ينظرون إلينا ويبتسمون، فهم يدركون معنى الانتماء. ولا زلنا نحافظ على هويتنا على الرغم من دراستنا للفرنسية، كما عاد الذين أوفدوا في بعثات دراسية إلى فرنسا وناضلوا من أجل الوطن»، وختم فكرته بقوله «التواصل الحضاري يزيد من ثقافتي ولا يفقدني هويتي. إلا في حال كنت إنسانا لا مباليا ولا اهتمام لي بوطني أو مجتمعي».





تأثير الثقافات على الهوية





وعن مدى تأثير الثقافات الخارجية على الهوية، طرح ياسر المالح مثالا من حياته الشخصية وقال، «أولادي موزعون في أرجاء العالم ولم يفقدوا هويتم أو لغتهم أو إحساسهم بالانتماء. ولا يمكن للمجتمع ككل أن يفقد هويته بالتواصل مع الآخر والتاريخ أكبر دليل. الهوية تتمثل أولا وأخيرا في عبارة «أنا أنتمي إلى».





الكاتب في سطور





* ولد ياسر المالح في دمشق عام 1933.





*حصل على ليسانس بالأدب العربي عام 1957 وعمل كمدرس لغة عربية في سوريا والكويت 1958 ـ 1972 ومديرا للتقنيات بوزارة التربية 1972، كما عمل مراقب الإنتاج وكبير الكتاب في مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي (الكويت)، 1977-1990.





* شغل ياسر المالح منصب رئيس كتاب برنامج «افتح يا وطني أبوابك «للأطفال في (90) حلقة، 1993 وأعد الكثير من البرامج الإذاعية والتلفزيونية للتلفزيون السوري والكويتي، وأشهرها «أبجد هوز» و»فرسان الكلام» و»البخلاء».





* أصدر ديوان شعر بعنوان (عودة إلى الحب )عام 1983، وآخر بعنوان «عرس الكلمات» عام.





رشا المالح







الاثنين، 12 يوليو 2010

القصة الحقيقية لقطع فان كوخ لأرنبة أذنه

عالم فان كوخ




كأنه لهبٌ إندلع من المجهول
1700 لوحة حصيلة حياة فان جوخ الفنية



تأليف : روبرت والاس
ارتبط اسم الفنان العالمي الهولندي فان كوخ بالحادثة الشهيرة التي تعكس تطرفه، أو جموحه في الحب، حينما قطع أرنبة أذنه وقدمها للمرأة التي عشقها، وفي هذه القصة الكثير من المبالغة إذ ان قطع أذنه تلا خلافاً حاداً بينه وبين الفنان بول غوغان حينما كانا يقيمان في النزل نفسه في آرل بجنوبي فرنسا، ونتيجة لانفعاله قام بقطع ذلك الجزء من أذنه وقدمه إلى المرأة التي كان يحبها.
هذه الحادثة غطت على شهرته وعبقريته كفنان مبدع عاش حياته معذباً بمشاعره وأفكاره التي كان يحكمها التطرف غالباً. وتكمن عبقرية هذا الفنان في أسلوب تفعيل وتصوير ما تراه أعماقه أو تشعر به في سرعة قياسية، وتعكس اللوحات جميع تلك الانفعالات وشحنات الطاقة المتواترة، من خلال ضربات ريشته السريعة والموتورة وألوانه القوية والمشعة لدرجة تجعل المشاهد حينما يحدق بها يشعر بما يشبه لحظة اندلاع اللهب لدى فتح باب فرن بصورة مفاجئة.
ويعد كتاب «عالم فان كوخ» للمؤلف روبرت والاس الصادر من دار نشر تايم لايف، والذي يضم 192 صفحة من القطع الكبير، من أهم الكتب التي قدمت المعلومات الصحيحة عن فن وحياة فان جوخ، وسيرة حياته الذاتية في هذا الكتاب تبين أسباب الإيقاع السريع لعمل هذا الفنان. ويذكر المؤلف انه وصلنا حتى يومنا هذا، ما يقارب 1700 لوحة، منها 900 رسم و800 لوحة فنية وثقت تدفق انفعالاته وتأججها على قماش اللوحة، حيث كان ينجز في بعض الأحيان بمعدل لوحة في اليوم الواحد وعلى مدى أسابيع.
وقد باع خلال حياته كلها لوحة واحدة فقط تسببت له في أزمة صحية بدلا من إسعاده وآخر كلماته التي دونها قبل انتحاره ذكر فيها «لكن ما الفائدة ؟»، بالطبع اتضحت الفائدة بعد مضي 25 عاما على وفاته، فلوحاته اليوم تعرض إلى جانب كبار مؤسسي الفن الحديث بول سيزان وجورج ستيورات وبول غوغان.
وتتصف أعمال فان كوخ بالخصوصية الشديدة وهو أكثر فنان، بعد رامبرانت، رسم صورا شخصية لنفسه تجاوز عددها الأربعين، وقد صور نفسه أيضا في معظم لوحاته التي كانت لمشاهد طبيعية أو لمجموعة من الشخوص في مشاهد داخلية.
كان الانطباع العام عن فان كوخ في حياته انه رجل عنيد وحاد الطباع ومختلف جدا. واليوم وبعد ما يقارب من مضي مئة عام على وفاته، أضحى هذا الفنان بطلا أشبه بالأسطورة، حيث يقدّر في هذا العصر التميز والتفرد، وعليه فإن فان جوخ رفض العمومية إلى جانب كونه محاربا من الدرجة الأولى للنزعة المؤسسية والتقليدية.
صحيح أنه أنهى حياته بالانتحار، لكن ذلك لم يتم قبل مقاومته أشد وأعند المقاومة تجاه حياة لم تكن سهلة على الإنسان في ظروفها الاجتماعية والمادية إضافة إلى مرضه العصبي. كان يرى الحياة بأنها أمرا سقيما لا يحتمل، وبأن العالم لعنة الصراع، ولم ينظر إلى نفسه مطلقا كبطل، مما جعل من جرأته أكثر نبالة ومثالية.
وقد كتب عن ذلك قائلا، «على الأغلب، علي أن أعاني المزيد لاحقا. وللحق، فأنا لا أنشد التحدي تحت أي نوع من الظروف لأكون في المحصلة شهيدا. أنا أبحث دوما عن شيء مختلف عن البطولة التي لا أملكها، والتي احترمها كثيرا في الآخرين. أكرر مجددا، أعتقد بأنها ليست واجبي أو لأحد مثلي».
كان فان كوخ يقلل كثيرا من شأن نفسه حتى أنه كان يكتفي بتوقيع أعماله الفنية باسم فنسنت فقط، كما ادعى أن سبب إغفال تدوين اسم عائلته على لوحاته يعود لصعوبة قراءته ولفظه من قبل الفرنسيين، علما بأن أعماله الأولى التي رسمها في هولندا كانت تحمل اسمه الأول أيضا.
ولد فنسنت في 30 مارس عام 1853، في قرية جروت زوندرت في المقاطعة الهولندية شمال بارينت وبجوار جنوب الحدود مع بلجيكا. كان والده قسا أسوة بأسلافه ويتبع الكنيسة الهولندية ومحبوبا من الرعية، وإن لم يتمتع بالحنكة أو يمتلك البلاغة للارتقاء في السلك الكهنوتي، وبقي عمله منحصرا في الانتقال من قرية إلى أخرى.
أما والدته آنا كورنيلي فهي امرأة عادية، وتنحدر من عائلة ذات تطلعات برجوازية وتحرص على المظاهر ويعمل معظم أفرادها في مجال الفن، وتضم عائلتها فنسنت وأخيه الأصغر ثيو وثلاث بنات. كان فنسنت في طفولته فتى جذابا بشعره الأحمر وعينيه الزرقاوين ومغرما بجميع الخنافس وأعشاش الطيور الفارغة ومولعا باختراع الألعاب. كان اخوته يحبون صحبته، إلا أنه كان عنيدا حاد الطباع وله سلوكيات متناقضة، ويشعر بنفور كبير من المديح.
فحينما صنع فيلا صغيرا من الصلصال ورسما لقطة أثنى عليه والداه، فقام مباشرة بتمزيق الرسم وتحطيم الفيل. وفي سن الثانية عشرة أرسله والده إلى مدرسة داخلية في قرية (زيفيبرجن) على بعد 15 ميلا على الرغم من دخله المحدود، إذ كان فنسنت يزداد عنفا من خلال تواصله مع أبناء الفلاحين.
ترك انفصال فنسنت عن عائلته في هذا العمر أثرا كبيرا على شخصه. ولم يعرف كثيرا عن مستوى دراسته سوى أنه تخرج منها برغبة نهمة للقراءة وبقي طيلة حياته مفتونا بالكتب، التي صورها في العديد من لوحاته. وقرأ بفضول وإعجاب كلاً من شكسبير وفولتيروهومر وديكنز من دون تمييز.
كان حبه وتذوقه للفن غريبا أيضا ويعتمد على موضوع اللوحة، فقد قال في إحدى المناسبات بأنه على استعداد لمنح 10 سنوات من عمره مقابل السماح له بالجلوس لمدة اسبوعين مع رغيف خبز وماء أمام لوحة رامبرانت الرائعة «العروس اليهودية».
وفي سن السادسة عشرة ترك المدرسة ربما بسبب الضغوط المالية، وبمساعدة خاله لافنسنت ونفوذه حصل على مكان له في منزل خاص بنسخ اللوحات الفنية الشهيرة. وفي مؤسسة جوبل، عمل في الجانب الإداري من دون أي مؤشر لطباعه التي ستمزق حياته لاحقا، كما استمتع في عمله ونجح، وبدأ يتبادل الرسائل مع أخيه ثيو، حينما كان في التاسعة عشرة من عمره وثيو في الخامسة عشرة.
وتم العثور على 36 رسالة من ثيو لأخيه وعلى 661 رسالة من فنسنت لأخيه الذي كان يحتفظ بها بالإضافة إلى 135 رسالة وجهت لعدد من أفراد العائلة والأصدقاء. وقد ساعدت تلك الرسائل في معرفة سيرة حياته وعلاقته بالآخرين بدقة وأيضا فهم أسباب تعاسته. وتغطي تلك الرسائل مرحلة زمنية تقارب من الثمانية عشر عاما، ابتداء من أغسطس 1872 وانتهاء بيوليو 1890، أما الرسالة الأخيرة فكانت هي تلك التي كتبها ولم يتمها قبل انتحاره بساعات.
وحينما بلغ العشرين عاما، نقل بتوجيه من خاله إلى فرع المؤسسة في لندن، وبقدر ما كان آسفا على مغادرته هولندا، كان قانعا بأنها فرصة رائعة لتعلم اللغة الإنجليزية. استأجر غرفة في منزل أرملة فرنسية تدعى لوير التي تعيش مع ابنتها أورسولا، وكانت رسائله إلى أخيه حينها مفعمة بالتفاؤل والحياة.
بدأت التراجيديا تغزو حياته، حينما وقع في حب الابنة أورسولا حيث احتفظ بحبها سرا لنفسه. عاش فان جوخ حياته في نسج الأحلام التي رأى من خلالها العالم كما يريده أن يكون وليس كما هو في الواقع. وحينما كاشفها بحبه، خاب أمله لرفضها حبه. تمثلت الصدمة في أنه افترض منذ البداية وقبل عام بأنها تبادله الحب، غير أن الحقيقة التي صارحته بها أنه لم يخطر هذا الأمر في بالها مطلقا.
ولدى صحوته من حلمه بعد رفضه، انتقل ليعيش بمفرده في أماكن مختلفة، وفي عزلة كاملة وانقطع عن المراسلة. ورسائله المقتضبة إلى أخيه كانت تحمل مقاطع من الكتاب المقدس وقصائد حزينة سبق أن قرأها.
في باريس
في 1875 ومع قلق عائلته عليه، رتب خاله نقله إلى مكتب باريس آملاً في رفع معنوياته من خلال تغيير المكان.
وفي باريس زاد اهتمامه بالدين الذي وصل حد الهوس، وأهمل بالتدريج عمله، وبات يقنع الزبائن بعدم شراء بعض اللوحات التي لم تعجبه، وكان ذلك في موسم الأعياد، حيث يعتبر أهم موسم للبيع. وأعطي فنسنت إنذارا بمغادرة العمل بعد مضي ثلاثة أشهر.
لم يشعر فنسنت بالندم لطرده بل كتب لأخيه موضحا، «عندما تنضج التفاحة، فإن أية نسمة خفيفة تدفعها للسقوط من الشجرة وهذا ما حصل معي».
كان في الثالثة والعشرين من عمره، عاطلا عن العمل، ولم يكن لديه أية فكرة عما يريد فعله، على الرغم من رسوماته العديدة في رسائله، ولم تكن فكرة أن يصبح فنانا واردة في ذهنه.
لم يتخل حتى ذلك الحين عن أمله في إقناع أورسولا بتغيير رأيها تجاهه، فقرر العودة إلى لندن. ووجد فيها عملا كمدرس في مدرسة داخلية مقابل السكن والغذاء وبلا راتب، ثم انتقل إلى مدرسة أخرى حيث حصل على مرتب قليل إلا أنه درّس الكتاب المقدس الأقرب إلى قلبه.
وفي ديسمبر 1876 عاد إلى عائلته في إجازة، حيث فوجئت العائلة بمظهره الذي ينم عن سوء حالته الصحية ولا مبالاته بالحياة، وبمساعدة خاله مجددا عمل كموظف في مكتبة في دودريخت، ولم يستمر في العمل لأكثر من أربعة أشهر، أمضاها في ترجمة الكتاب المقدس إلى الفرنسية والألمانية والانجليزية مع رسومات إيضاحية.
بات واضحا للعائلة ان مستقبله في السلك الكهنوتي، ورتبت الأمور ليبدأ الدراسة في أمستردام وهو الرابعة والعشرين من عمره. درس اللاتينية والإغريقية تمهيدا للامتحانات، وبعد مضي عام تخلى فنسنت عن الفكرة ولم يتقدم للامتحانات، فقد تمثلت فكرته بأن اللاتينية والاغريقية ليستا بمعرفة ضرورية تساعد في إراحة الإنسان، فالعمل الحقيقي للدين يتمثل في عالم البؤس والفقر.
وفي الخامسة والعشرين سجل في معهد ديني في بروكسل وتخرج بمؤهل يساعده في الأعمال التبشيرية، ونظرا لعدم اهتمامه بالجانب الأكاديمي رفض المعهد تكليفه بمهام أو تمويل رحلاته التبشيرية.
وبدعم مالي ضئيل من والده، ذهب إلى منجم فحم في جنوب بلجيكا، وعاش مع العمال، وساعدهم على تحمل بؤسهم، مما أقنع المعهد بجدوى جهوده، وخصص له راتبا قدره 10 دولارات في الشهر. غير أن مشكلة فنسنت استمرت بسبب تعامله مع الدين من خلال المعنى الحرفي للكتاب المقدس مما دفع المعهد إلى سحب دعمه.
ومن خلال المراسلات بين الأخوين، تمكن ثيو من إقناع أخيه بأن يكون رساما، ولاقت تلك الفكرة اهتماما من فنسنت وعبر عن رأيه في رسالة لأخيه ذكر فيها، بأنه إن لم يتمكن من مساعدة الفقراء والفلاحين في تحسين أوضاعهم ومعيشتهم، فهو يستطيع من خلال الفن ولوحاته إظهار تعاطفه معهم. وربما تلك هي الوسيلة الوحيدة بالنسبة له للتواصل مع الله ومن خلال هذا المفهوم وجد العزاء في فنه.
وفي 1885 وتبعا لأفكار كان من الطبيعي أن يكرس موضوعات لوحاته في البداية لرسم الفلاحين وتصوير بؤس حياتهم. ففي لوحة «المرأة الفلاحة تعقد حزمة شعير»، يؤكد فنسنت على صعوبة العمل من خلال المبالغة في الذراعين القويتين مثل جذع شجرة قديمة، وفي لوحته «الحطاب» يبدو قاطع الخشب صلبا ومستنزفا مثل بنطاله المجعد.
أثارت ملابس الفلاحين الباهتة والبالية اهتمامه وفضوله، وكانت بالنسبة له جزءا مهما يساعد في الكشف عن شخصية مرتديها. كان فان جوخ يدرك بأن أسلوبه في رسم الفقراء يفصله عن معاصريه من الفنانين الهولنديين الذين لجأوا لرسم المشاهد الطبيعية المألوفة. وكان يقول:
إن رسم كبار الشخصيات لا يجدي، فرسم جسد فلاح أثناء عمله هو جوهر الفن الحديث».
وبعد أن اتخذ قراره بأن يصبح فنانا، بدأ يدرب نفسه بنفسه وقام بجميع التمارين لإتقان الأسلوب والتقنية، ورسم مئات الدراسات لتفاصيل عديدة مثل حركة اليد في أوضاع مختلفة.
آكلو البطاطا
كما الزم نفسه بالرسم والتلوين حتى نجح في محاكاة الواقع بصورة مذهلة، مثل لوحته «سلة البطاطا». كان تمكنه من المادة والدرجات اللونية كفيلا بجعل موضوع لوحته ينبض بالحياة. وبعد مضي خمس سنوات على عمله الدؤوب استطاع إبداع لوحته الأولى «آكلوا البطاطا»، التي تعكس جميع تقنياته التي طورها عبر تجاربه، وتجسد شخوص اللوحات حياة الفلاحين الذين عايشهم خلال مرحلة عمله في مناجم الفحم.
وتكتسب تلك اللوحة خاصيتها من خلال الألوان الداكنة والترابية التي تعكس كآبة حياة هؤلاء الأشخاص الذين يتناولون الشراب الساخن والبطاطا فقط كوجبة عشاء بعد يوم عمل شاق وفي غرفة أشبه بالاسطبل. كما كانت الأيدي المعروقة من العمل والملامح المتجهمة وأيضا الحنان المطل من نظرة الفتاة الشابة ووميض نور المصباح البرتقالي يوثق الحياة الشاقة والواقعية أيضا.
وفي مراحل أخرى تحول إلى موضوعات مختلفة إلا أنه تمسك دوما بالتعبير عن الحياة بمختلف صورها سواء في الطبيعة أو الأشخاص.
وفي سن السابعة والعشرين بدأ العمل في استوديو خاص استأجره بدعم مالي من والده بجانب أحد المناجم، وزوده أخيه ثيو بالكتب الفنية وكذلك مدير فرع مؤسسة جوبل. وسرعان ما قرر فنسنت تغيير مقره لصعوبة العمل بسبب ازدحام المكان بأولاد عمال المناجم، وبعد أن رفض دعوة أخيه للحاق به والإقامة معه في باريس تخوفا من كونها مركز الفن العالمي، توجه إلى بروكسل وأقام في أرخص فندق فيها عام 1880.
أمضى في بروكسل عاما كاملا عاش خلاله حياة تقشف قاسية وكان يطلع أخيه على مراحل تقدمه في العمل، ربما عرفانا بدعمه المالي له. ونظرا للمصاريف الكبيرة في بروكسل قرر فنسنت قضاء فصل الصيف في منزل عائلته في أيتين ولم يكن واثقا من كيفية استقبالهم له، وقد وصل إليهم هذه المرة بآمال متواضعة، إذ راوده الأمل في إمكانية بيع لوحاته إلا أنه سرعان ما أدرك بأنه لا يمكن ترويج لوحات الفلاحين في سوق العطارين كما كان يسمي المتعاملين بالفن.
وخلال الأشهر التي أمضاها مع عائلته واجه صدمته الثانية في الحياة، حينما أحب قريبته الأرملة الشابة كي خوس التي تودد إليها من خلال التقرب من طفلها البالغ من العمر 4 سنوات، حيث أتت منزل عائلته لقضاء اجازتها وتجاوز محنتها.
وحينما صارحها بمشاعره، أفزعها إصراره مما دفعها للمغادرة والعودة إلى بيت عائلتها في أمستردام. وحينما لم يتجاوب والداه مع مشاعره والسعي لإقناعها به تحول إحباطه إلى نقمة تجاههما.
لم يتردد طويلا في اللحاق بها إلى امستردام وحينما رفضت مقابلته وأمام إصرار والديها، قام بمشهد درامي إذ وضع يده على نار المصباح وقال لهم بأنه سيتحدث معها في الزمن الذي يتيح له تحمل ألم الحرق فقط، إلا أنهما سارعا في إطفاء المصباح حيث وقع مغشيا عليه. وعطفا عليه ساعده والداها في العثور على نزل لإمضاء ليلته فيه.
وبمساعدة عائلته مرة أخرى ذهب فنسنت إلى لاهاي لدراسة الفن لدى قريبه الفنان أنطون موف، الذي احتضنه في البداية وتعاطف معه وساعده في تأمين مرسم له وقدمه إلى جمعية الفنانين حيث بإمكانه رسم الموديل.
إلا أن تمرده وعصيانه دفع أنطون للابتعاد عنه، ثم ساعده قريب آخر يعمل في مجال الفن، من خلال شراء بعض لوحاته، وحاول إقناعه برسم المشاهد التي تستهوي السياح. وقد لقب فنسنت حينها بالقديس الحديث نظرا لتشبثه بأفكار سامية ومثالية، وذلك نتيجة إصراره في رسم لوحات تثير مشاعر الإحسان والمسئولية بدلا من الحزن الرومانسي البعيد عن حقيقة الحياة.
أراد أن يقول للناس لدى مشاهدة لوحاته بأنه فنان يشعر بعمق الحياة بتعاطف وحنان، غير أنه في نظر الناس لا شيء أو شخصا خياليا غير مقبول ولا مكانة له في المجتمع ولن يحظى بأي منها. وفي ذلك يقول، «ليكن هذا، فأنا أريد أن أريهم ما الذي في داخل قلب هذا الرجل الخيالي، اللاشيء. هذا هو طموحي الذي يتمثل في الدفاع عن الحب وإن كان بدافع الغضب».
وفي لاهاي ارتبط بعلاقة عاطفية مع إحدى الفتيات من بنات الهوى، وحاول عبر علاقته بها تكريس مثله وقيمه في الحياة، من خلال مساعدتها وانتشالها من قاع المجتمع وحمايتها بتقديم حياة كريمة لها ولأولادها وأمها العجوز المتطلبة، وكل ذلك اعتمادا على مساعدات ثيو المالية.
لم تستمر علاقته بها طويلا لتطلبات العجوز المادية التي دفعت بابنتها لحياة الهوى مجددا ونصائح أخيه له بتركها. وفي تلك الفترة تطور فنه وبدأ اهتمامه بالألوان الزيتية ورسم الطبيعة والغابات، ويذكر في إحدى رسائله لأخيه، بأنه كان يبحث في المشاهد التي يرسمها عن شيء غامض وجاد مثل مشهد في فصل الخريف. كان عليه أن يرسم بسرعة حتى يلتقط ذلك التأثير في تحول النهار نحو الغروب، مما جعله يستخدم الألوان من الأنبوب مباشرة على اللوحة لإضفاء التأثير الراغب به، وهو يدرك بأن ذلك بعيد تماما عن أصول المدارس الفنية. كانت سماكة الألوان وبروزها في بعض الأحيان يقارب من نصف بوصة.
عاد مجددا للعيش مع والديه في ضاحية نيونين وساعده والده بمدخراته في تحويل غرفة الغسيل إلى استوديو، وعمل فنسنت على رسم القرية والفلاحين وبالتحديد النساجين بصورة متواصلة. وبعد وفاة والده بثمانية أشهر ذهب إلى أنتويرب، وسجل نفسه في مدرسة للفن لمدة ثلاثة أشهر. وتمثلت استفادته منها في زيادة إبراز الألوان والتفكير بها كأسلوب فني، إذ أدرك بأن الألوان مرتبطة بالمشاعر بصورة ما. كما درس الألوان المشرقة لدى روبنز في المتاحف والكنائس وأحب ذلك.
وأضحت ألوانه أكثر إشراقا، وأضاف اللون القرمزي والأصفر المخضر، وأحس بأن فنه يتخذ منعطفا جديدا، وبأنه بات مهيأ للذهاب إلى باريس.
تأثير باريس
كانت باريس في 1886 حافلة بالابتكارات العلمية والأدب والموسيقى وعلى رأسها الفن. ولأول مرة تعرف فان جوخ على عالم مانيه وديجا وسيزان، وتيارات الانطباعية والتنقيط والرمزية والفن الياباني وعلى كل ما يمكن أن يثير اهتمامه.
وبحذر وخجل صادق فان كوخ كل من الفنانين بيزارو وتولوز لوتريك وسيناك وغوغان وغيرهم من كبار الفنانين وكان يتفحص أعمالهم وأفكارهم بدقة وتركيز، ويحاكيها في بعض الأحيان سعيا لبلوغ إتقانها.
وخلال عامين جرى تحول كامل في فنه وبات فنانا مختلفا عما كان عليه، حيث بدأت لوحاته تشع بالألوان المشرقة والإضاءة ومواضيع مختلفة، حيث رسم مقهى سيرين من الداخل ومشاهد من الطبيعة واستبدل شخوص العمال بصور حية للأصدقاء .
وقد أنتج في باريس ما يقارب من 200 لوحة خلال عامين و50 لوحة عن الزهور و50 مشهداً للطبيعة. ومن أهم لوحاته في عام 1886 «حقل الشعير» التي ترجع ألوانها إلى الانطباعية، حيث ترك لضربات الفرشاة اللعب بجزء من الموضوع، مثل تمايل الشعير والورود الحمراء، غير أن رسم مساحة العشب والشعير والسماء بمستوى أفقي يمنح الشعور بثبات الأرض تبعا لأسلوب الهولنديين وكذلك الأمر في لوحته «الطاحونة في مونتمارتي» في ذات العام.
وقد احتضن عددا من الفنانين فان كوخ، مثل الفنان كاميل بيزارو الذي كان يبلغ من العمر حينها 50 عاماً والذي شرح له الانطباعية التي كان يجهلها فنسنت تماما. وقد أدرك بيزارو موهبة صديقه وقدراته الإبداعية أسوة بعدد غير قليل من الفنانين في فرنسا.
كما تبنى فنسنت أسلوب الفنان الأميركي ستيورات في التنقيط والذي اعتمد في رسم لوحاته على بناء هندسي محكم مع التوازن بين البناء الأفقي والشاقولي وبين الألوان المضيئة والداكنة والباردة والحارة، لم يترك في أعماله أي شيء للصدفة. ورغم رفض فان جوخ لهذا الأسلوب الهندسي المتقن إلا أنه احترم جهود هذا الفنان وأسلوبه وتأثر به.
في آرل
في فبراير 1888 غادر إلى جنوب فرنسا فجأة واستقر في آرل، حيث أمضى مدة من الزمن مع غوغان حتى اختلفا وذلك لتناقض طباعهما. وفي هذه المدينة تألق فن فان جوخ وتمثل ذلك في لوحته «شجر الخوخ المزهر»، ورسم حتى ديسمبر قبل تعرضه لانهيار عصبي ودخوله مستشفى الأمراض العصبية ما يقارب من 90 رسمة و100 لوحة، اشهرها لوحة «عباد الشمس» و«الجسر » و«الفلاح العجوز» و«قوارب الصيد» و«شاطيء سانت ماريز».
وحينما انتقد ثيو وبعض الفنانين سرعته القياسية في انجاز اللوحات دافع عن نفسه من خلال ما ذكره في رسالة لأخيه يقول فيها، «ماذا عن كلود مونيه الذي أنجز 10 لوحات خلال أربعة أشهر فقط. السرعة في العمل لا تعني الاستخفاف بجديته، إنما الاعتماد على ثقة المرء بنفسه وخبرته».
ويعزى اندفاعه للعمل المتواصل الذي كان أشبه بالانتحار إلى رد جميل أخيه ثيو وسعيه إلى ألا يخيب ظنه فيه، وكان يشبه نفسه بمحرك للرسم، علما بأنه كان يرسم مباشرة بالريشة من دون تخطيط مسبق للوحة.
واجه فان كوخ أول انهيار عصبي في آرل كما ذكرنا، وادخل مصح سانت ريمي في مايو 1889، وتعافى بعد مضي شهرين، ولكنه انتكس مجددا وحاول الانتحار بعد زيارة أخوه وزوجته الحامل، حيث تخوف من فقدان الدعم المالي الذي كان يمده به أخيه، وحاول ابتلاع الألوان السامة وقد نجا من تلك المحاولة بسبب وجود الحراس حوله في المستشفى.
استغرق شفاؤه بضعة أسابيع، وبدأ يرسم داخل المصح، كان يصور في لوحاته هيجان الطبيعة التي كانت تعكس صراع أعماقه. وبقي ما يقارب العام في المصح أنتج خلال هذه الفترة ما يقارب لوحتين كل أسبوع رغم انتكاساته.
ومع إصراره على مغادرة المصح، اقترح الفنان كاميل بيسارو إقامته مع الدكتور جاستيه المختص بالأمراض العقلية ومن محبي الفن الحديث في أوفر التي تبعد 20 ميلا عن باريس. أقام في سكن ملائم وعادت إليه صحته وتفاؤله واسترد طاقته في الرسم بصورة متواصلة.
واهتم خلال تلك الفترة بأعمال فن الحفر وهو الأهم بعد رامبرانت، فقد اعتمد الرسم بالخطوط والنقط ليحقق بعد عمق اللوحة والإحساس باللون في الخلفية، وأشهر أعماله في الحفر «لوحة حقل الذرة». ويبدي رأيه في هذا الفن في رسالة لأخيه بقوله، «ما هو الرسم، إنه عمل الشخص من خلال جدار معدني غير مرئي، يقف بين ما يشعر به المرء وبين ما يمكن عمله».

وخلال وجوده في المصح في بداية 1890 وصل إلى فنسنت خبران يمكن لهما إسعاد وتشجيع أي فنان آخر في الحالة العادية، غير أن وقعهما على فان جوخ كان سلبياً.
والخبر الأول تمثل في نشر مقال مسهب عنه وعن فنه، امتدح فيه الناقد الشاب أعماله وأشاد بفنه وإبداعه وعبقريته، مما أثار غضب فنسنت الذي اعتبر ما ذكره مجاملة وإطراء، حيث كان يعتبر نفسه فنانا من الدرجة الثانية، وكذلك بيع أول لوحة له في معرض أقامته جمعية العشرون فنانا في بروكسل.
أما الخبر الثاني الذي دفعه ربما للانتحار حينما صارحه أخوه ثيو في رسالته برغبته في الاستقالة من عمله بسبب الموظفين الذين كانوا يزعجونه في العمل في صالة العرض، مما دفعه للشعور بأنه ليس إلا عبئا على أخيه وبأن سنوات اعتماده عليه قد شارفت على الانتهاء.

انحدرت معنويات فان كوخ أثر ذلك، وفي 27 يوليو 1890 بدأ بكتابة رسالة إلى أخيه ذكر فيها ما يلي، «من خلالي، ساهمت في إنجاز عدد من اللوحات التي رسمتها والتي تعكس الهدوء رغم العواصف. أنا أخاطر بحياتي لأجل الفن، والسبب يعود لمؤازرتك لي، لا بأس. ولكن ما الفائدة؟».


لم يتم فان كوخ رسالته التي وضعها في جيبه وحمل معدات رسمه مع مسدس لم يعرف مصدره، وخرج إلى الطبيعة ولم يعد بعدها. وجدت الرسالة في جيبه مما يشير إلى أنه لم يكن قد بت بعد بشأن قرار انتحاره، وعلى الرغم من أن عمر حياته الفنية لا يزيد على عشر سنوات، إلا أنه ترك ثروة من الأعمال الفنية. وجدير بالذكر أن أخيه ثيو توفي إثر انهيار عصبي تلاه اكتئاب شديد وذلك قبل مضي ستة أشهر على وفاة فان جوخ.


عرض ومناقشة رشا المالح Rasha Al Maleh

الثلاثاء، 6 يوليو 2010

عرض لكتاب مشاهير الفن الإيطالي




شهرة الموناليزا لم تنبع من الابتسامة وحدها، عصر النهضة يجسد المرحلة الأكثر تألقاً لعباقرة الفن


يجمع كتاب «مشاهير الفن الإيطالي» ، الذي نناقشه هنا، الأعمال الفنية الكاملة لأشهر ثمانية فنانين إيطاليين ممن ينتمون الى عصر النهضة، وممن كان لهم دور ريادي في عالم الفن وتطوره خلال القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر.وما يميز هذا الكتاب، هو تقديمه موجزاً للسيرة الذاتية لكل من هؤلاء الفنانين مع دراسة وافية وتفصيلية لجميع أعمالهم الفنية الموثقة بدراسات نقدية رصدت مراحل تطورهم الفني وتميز أسلوبهم، لاسيما في الأعمال التي نالت شهرة عالمية حتى يومنا هذا.

يقدم مؤلف هذا الكتاب المطبوع في فلورنسا عام 2001 ويضم 638 صفحة من القطع المتوسط، أعلام الفن الإيطالي مثل، بييرو ديلا فرانشيسكا وبوتشيللي وليوناردو دافنشي ورفائيل، وتيتان وكارافاجيو وأخيرا فنانو البندقية. وقبل التطرق لحياة وفن أكثر هؤلاء الفنانين شهرة وتقديم عرض لأعمالهم التي حققت شهرة عالمية حتى عصرنا الحالي، قد يكون من المناسب تقديم لمحة موجزة عن مفهوم عصر النهضة الإيطالية من زاوية الفن.

فهو عصر تطوير لقدرات الفنون وانطلاق الفنان ذي الشخصية الخلاقة نحو واقعية جديدة في تصوير الطبيعة وما تحويه من عناصر وأشكال تتصدرها الشخصية الإنسانية. وعصر النهضة يجسد الثورة الثقافية والفنية في إيطاليا، التي بنيت على أكتاف المجددين الذين أزاحوا عراقيل القرون الوسطى ونادوا بحرية الفكر والبحث. فما أن بلغت روح النهضة إلى الفنانين حتى تبدلت الأحوال وانطلق الفنانون إلى المستويات الفنية العالمية لعصر النهضة.

كان المنهج الديني هو الملهم الأول لفن هؤلاء المبدعين، وعلى ذلك فإن أعمال التصوير والنحت التي أبدعها الفنانون من حياة المسيح والعذراء والقديسين وجدت سبيلها إلى مجال الحياة اليومية وأضفى الفنانون على هذه الأعمال مسحة مؤثرة.وقد استطاع فنانو النهضة بنزعتهم الإنسانية أن يتفاعلوا مع الطبيعة، ويتعايشوا مع شفافيتها، ومن ثم تجسيدها في أعمالهم التي تشمل الموضوعات الدينية اليومية.

ويقوم فن عصر النهضة على موضوعات ومضامين معنوية عبر مجموعة من الأشكال المستمدة مما تبصره عين الفنان في الحياة المرئية المحيطة به، حيث يقدمها في صيغة تتجلى فيها محاولاته في محاكاته الطبيعة ومشكلات الواقع المنظور من دون اللجوء إلى التحرير أو التغيير، مراعياً في ذلك النسب الطبيعية والأبعاد الرياضية، متوخياً الدقة والمماثلة.

كما هي الحال في أعمال الكلاسيكيين والرومانسيين والانطباعيين، وغيرهم من الفنانين الذين يندرجون في سياق الواقعية، والواقعية التسجيلية، حيث اعتمد معظم هؤلاء على الموضوعات الأدبية والدينية والميثيولوجية، بالإضافة إلى تسجيل الموضوعات التاريخية والمشاهد اليومية والمناظر الخلوية والطبيعة الصامتة، وهي موضوعات لا تحتاج إلى عناء في فهمها لمن توافرت له المعرفة الأدبية والتاريخية.

ويعتبر بييرو ديلا فرانشيسكا من أهم الفنانين الذين كان لهم تأثير على الحركة الفنية في إيطاليا. والقليل عرف عن هذا الفنان الذي ولد في قرية بورغو سان سبولكرو، لكونه عاش معظم حياته بعيدا عن فلورنسا التي كانت مركز الفن. وقد ساهم في نشر الفن الحديث وتميزت لوحاته بمنظور المساحة كما اعتمد على الألوان المشرقة والناعمة الملمس، وعلى تقصير نسب الشخوص التي رسمها سعيا لإبرازها وتركيز الرؤية عليها.

ومن أهم وأشهر لوحاته التي تعكس أسلوبه الفني، جدارية فلاجيلاتون، التي رسمها خلال وجوده في أوربينو. وقد صمم اللوحة بدقة متناهية آخذا في الاعتبار البناء المعماري المدروس وعمق المساحة الذي كان أحد اهتماماته منذ باكورة أعماله. ولا بد للناظر إلى اللوحة أن يقف مباشرة قبالة مركزها الذي يمثل النقطة المركزية للمنظور الخاص باللوحة كاملة.

وقد رسم شخوص الحكام والمسئولين في ذلك الحين معتمدا على تقصير النسب واستخدام الألوان البراقة المشرقة، مع عناية وتركيز على تفاصيل العمارة مثل سقف البناء على الرغم من كونه في أقصى خلفية اللوحة وكذلك أبدى عناية بمعالجة القماش.أما اليساندرو بوتشيللي فهو هو الابن الرابع والأصغر لأبويه.

ولد في قرية فياديل بورتشيلانا بالقرب من نهر أرنو وكان في طفولته ضعيفا كثير المرض، مما جعله منعزلا عن الآخرين. وفي عام 1464 انضم إلى ورشة الفنان الشهير فرا فيليبو ليبي وبقي فيها حتى بلغ 22 عاما.وقد اكتسب لقب بوتشيللي الذي منح لعائلته لاحقا من خلال عمل أخيه الأكبر مع الحكومة في المراسلات وحصوله على منصب مسئول كبير.

وتميزت شخوص لوحاته بالانفعال الداخلي والتوتر والحزن والتأمل الدائم. ويعود ذلك إلى مرضه المتواصل في طفولته. ولم يكن الجمال السطحي العابر يعنيه، بل كان يركز على محاكاة شاعرية للقيم الجمالية البعيدة عن الواقع. فقد كانت صوره تحمل العديد من الأسرار الغامضة والدلالات ذات التأثير التعبيري غير المألوف في زمنه، مازجا بين القيم اللمسية الحسية والقيم الحركية في موضوعاته التي كان يستوحيها من الخيال، كما نرى في أعماله الخالدة «الربيع» و«ميلاد فينوس» و«منيرفا تروض القنطور».

و«الافتراء»، والتي تحمل أستاذية عالية في فن التكوين.قد أثرى بوتشيللي شخوص لوحاته بالانفعال الداخلي والتوتر والحزن والتأمل الدائم، ويعود ذلك إلى طفولته ومرضه. وتتميز لوحاته بالخط الديناميكي والطاقة في التشخيص والحركة المبالغ فيها والملائمة والاعتماد على الإضاءة والتظليل لإظهار الموضوع.

وتعتبر لوحة «فورتيتيود» التي أبدعها عام 1470من أهم أعمال اليساندرو، وتعني الثبات مع الشجاعة والألم والأسى معا. وما يميز اللوحة تصوير توتر وتأمل الشخصية مع الطاقة والحيوية التي تشع من وجهها ووضعيتها. ومن خاصيتها أيضا، العمل على اللون الأزرق للزي الحربي المعدني، والذي ينم عن تمرس ومهارة في الفن الخاص برسم المعادن، إلى جانب عنايته الفائقة في معالجة الثياب. تمثل تلك اللوحة إبداع بوتشيللي الأصيل وتظهر أسلوبه الخاص والغني إذا تمت مقارنته بمعاصريه من الفنانين.

كما تعتبر جدارية «بالاس وسانتور» التي رسمت في عام 1482 نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في التدين، حيث اقتصرت رسوماته بعدها،على المواضيع الدينية الخاصة بالكنائس. و«بالاس وسانتور» هي اللوحة الأخيرة من ثلاثية لوحات «بريمافيرا» و«ميلاد فينوس».

ويركز اليساندرو في هذا العمل على أهمية الإنسان وتفوقه، فالجسد القوي لبالاس، الذي اعتمد في رسمه على أسلوب النحت الكلاسيكي يمثل حكمة الإنسان التي تتغلب على حدس سانتور. وقد نفذت اللوحة بمهارة وخطوط انسيابية وتناغم في العلاقة الإنسانية بين الشخصيتين والصخور في الخلفية التي تمثل آثار الحضارة الرومانية.

التلميذ الذي أذهل أستاذه

ولد الفنان ليوناردو دافنشي في 15 ابريل 1452 في قرية فينشي، وهو ابن غير شرعي وإن احتضنه والده الذي كان يعمل كاتبا للعدل ورعاه وأشرف على تعليمه. وعندما حمل أبوه رسومه وهو صبي صغير إلى صديقه الفنان فيروشيو ليطلعه عليها، أدرك الأستاذ من فوره عبقرية الصغير وطلب إلى أبيه أن يتتلمذ ابنه لديه.

ومن أعجب ما يروى عن هذا التلميذ العبقري أن أستاذه في خضم عمله طلب إليه إن يساعده في رسم ملاك في إحدى اللوحات ولما أنجز - ليوناردو - رسم الملاك طغت روعته على أشخاص اللوحة ورأى أستاذه ذلك فتولاه الذهول لتفوق تلميذه عليه، فترك فرشاته وهجر التصوير واشتغل بالنحت بقية حياته. ولدى انتقال والده إلى فلورنسا، ولموهبته الظاهرة، بعثه والده ليتتلمذ على أيدي أشهر رواد الفن في تلك المرحلة مع دراسته لمختلف أنواع الفنون كالنحت والرسم المعدني وغير ذلك.

ومنذ عام 1472 اعتمد أستاذاً في مجموعة الفنانين. وفي عام 1480 أصبح عضوا في أكاديمية حديقة سان ماركو تحت رعاية الفنان لورانز. وهي المرة الأولى التي يدخل فيها ليوناردو عالم النحت الذي جذبه نظرا لتكامله.بات جو فلورنسا بعد حين أضيق من احتوائه، نظرا لطبيعته الديناميكية وهاجسه الدائم في البحث عن آفاق جديدة في الابتكار والإبداع.

وخلال الفترة من 1494 وحتى 1503 استحوذت فكرة الطاقة المائية على اهتمامه التام مما جعله غير قادر على الالتزام بموعد محدد لإنهاء رسوم الجداريات التي كلف بها.وفي مايو 1513، لبى دعوة ملك فرنسا فرنسيس الأول، واستقر في أمبواز حتى وفاته. وصمم ليوناردو خلال حياته في فرنسا العديد من المهرجانات والاحتفالات، كما تابع عمله على مشاريع الطاقة المائية والتي تم استخدامها في عدة أنهر.

وتعتبر لوحته الكبرى العشاء الأخير من أعماله التي بلغت حد الاعجاز، وقد جلس وسط المائدة المسيح وعن يمينه وشماله حواريوه الذين يموجون بحركات وإشارات هي الإبداع نفسه، كما توج هذا العمل بما ارتسم على وجوههم من تعبيرات عميقة متنوعة.ولم تنل جدارية اهتماما عالميا مثل تلك اللوحة على الرغم من أن ألوانها باتت ظلالا باهتة مقارنة بما كانت عليه في الماضي.

ولهذا العمل أهمية دينية وفنية، فقد قبلها الكاثوليك والبروتستانت على السواء من دون أي اعتراض، لكونها تجسد النقطة المركزية للديانة المسيحية.

ومن ميزات تلك اللوحة أيضا، المعدل العالي من السعادة السائدة في الجو العام وبالتحديد في الخلفية حيث تظهر من خلال الفتحات الثلاث سماء أحد مساءات آخر أيام الصيف، والتي تبرز التناقض في الصورة الدرامية للمؤامرة التي صرح بها المسيح لأتباعه بقوله، «إن واحدا منكم سيخونني».

والحركة في لوحة العشاء الأخير جماعية، وتظهر تناقل الكلمات التي صرح بها المسيح بسرعة الريح من فرد إلى آخر، وفي أحد الجوانب تعليق ثلاثة من أتباعه على الأمر، وتبدو الغرفة ذات البناء المعماري الكلاسيكي الثابت وقد قوضت بفعل المعلومة التي صرح بها والتي أثارت زوبعة في المكان.

وقد تطلب هذا العمل سنوات من التخطيط وعددا لا يحصى من الرسومات التحضيرية التي تظهر حلولا مختلفة أوصلت الفنان إلى الموضوع النهائي لتلك اللوحة الفريدة. وتعكس اللوحة الاندفاع الروحي المكثف للفنان وجهده الدؤوب في التصميم الذي ترك بصماته على اللوحة حتى يومنا هذا، مما يدل على أهمية وعظمة هذا الفنان.

كما وضع ليوناردو العديد من الرسومات والدراسات للشخوص ونسبها، خلال إعداده لتلك اللوحة، وقد اعتمد الكثير من الفنانين طريقته في حساب النسب.يضاف لرصيد ليوناردو بأنه أول من رسم وجوه الإنسان بعيوبه، وقيل بأنه كان يزور الأحياء الأكثر فقرا في ميلانو لرسم وجوه الأشخاص الذين ترك الفقر علامته الدامغة على أجسادهم وأرواحهم.

والعمل الفني الآخر الذي ضاهى بشهرته على مدى القرون جدارية «العشاء الأخير»، هو لوحة «الموناليزا»، التي احتفظ بها ليوناردو لنفسه بعد رسمها ثم انتقلت بعد ذلك إلى ملك فرنسا فرنسيس الأول ومن ثم إلى متحف اللوفر لتبقى فيه حتى يومنا هذا.

ويعتقد الخبراء بأنها رسمت في فلورنسا في عام 1503، وبأن موناليزا التي رسمها ليوناردو هي زوجة فرانشيسكو ديل جيوكاندو، وهو مواطن وتاجر فلورنسي.

وقد خرج ليوناردو في رسم لوحته عن الأسلوب التقليدي المتبع لرسم الوجوه، فقد رسم نصف القامة في وضعية الجلوس وأحد الكتفين مائلاً قليلا إلى الخلف، ورسم للخلفية مشهدا طبيعيا في جو ضبابي رطب وحالم مع احتفاظه بدقة التضاريس وتفاصيلها وذلك بدلا من الخلفية السوداء السائدة في ذلك الوقت.



وما يميز تلك اللوحة الفريدة بالإضافة إلى الابتسامة الغامضة وسحر تلك المرأة وهو معروف لدى الغالبية، يكمن في ما فيها من تكامل وتناغم وتواصل التعبير بشفافية بين شخصية اللوحة والطبيعة المستخدمة كخلفية. وكذلك الإحساس القوي في حالة الثبات الداخلي للمرأة والظاهر في تعبير وجهها الذي بات رؤية عالمية بما يحمله من معان يلفها الغموض.



وقد نجح ليوناردو من خلال هذه اللوحة في التغلب على المعضلة الأزلية التي تفصل بين الفكرة والواقع، حيث جعل من اللوحة مرآة لتأملاته وأفكاره أو وسيطا مباشرا، وأيضا تجاوز نفسه في تقديم تطلعاته الفكرية والفنية.



وباختصار كان ليوناردو دافنشي مصورا ونحاتا ومخترعا سبق عصره بما اخترعه من أدوات الحرب والسلم على السواء، وكان إلى جانب ذلك موسيقيا وكذلك قام بوضع أول كتاب عن التشريح كما أنه كان كيميائيا وعالما.



السقف المذهل



عاش مايكل انجلو لما يقارب القرن، حيث ولد في عام 1475 وتوفي 1564، ولم يتوقف عن العمل إلا قبل 6 أيام من وفاته.وقد تأثرت أعماله الفنية بالمرحلة التي عايش فيها تطرف الكنيسة المسيحية وتعصبها، وعاصر مرحلة اكتشاف العالم الفلكي البولندي كوبورنيكس للمجموعة الشمسية وتصريحه بذلك.



وقد تفوق مايكل انجلو على أقرانه في تصوير تغير تلك المرحلة وكذلك تفاعله معها كإنسان.يتجلى ذلك خلال المنحوتة الجدارية «معركة سانتاروس» التي أنجزها وهو في السادسة عشرة من عمره، واستلهم موضوعها من الأسطورة الإغريقية «المتعقلة بالبدء». ويجسد محور تلك اللوحة صراع الرجال وقتالهم.



وقد اعتمد في نحتهم على النسب الجمالية للجسد الإنساني مع التركيز على توتر الحركة وعنف إيقاعها، من خلال بروز أجزاء من الجسد بعيدا عن الخلفية ليعود للالتصاق بها مجددا، إلى جانب تقاطع الأجساد وتداخلها. كما أن سلاحهم الوحيد في المعركة كان قطعا صخرية وهراوات.



وقد اعتمد العمل بأكمله على الخطوط المنحنية من دون أية حسابات هندسية أو اعتبار لدراسة قوة الجاذبية الأرضية. واللوحة ترمز من خلال تلك المعركة إلى قوة جسد الرجل وعزيمته وشجاعته فقط.وقد كسر مايكل أنجلو الأسلوب التقليدي المتعارف عليه، عندما كلف بنحت تمثال للنبي موسى في عهد لجمهورية في البندقية في عام 1501، إذ لم يلجأ إلى النمط التقليدي المعهود في تجسيده منتصرا ومعتمرا سيفه مع وضع رأس العملاق المقطوع أسفل قدمه.



بل جسد شابا في حالة تأهب قبل بدء المعركة مباشرة، وفي حركته تحفز اللحظة التي سمع فيها بأن قومه مترددون، وقد منح مايكل أنجلو التمثال الجسد الذي استعمله الإغريق لتماثيل أبطالهم.فالجهة اليمنى من التمثال ناعمة الملمس مصقولة ذات وضعية تماشي مسار الحركة، في حين أن الجهة اليسرى، ابتداء من القدم وباتجاه الأعلى حتى الشعر غير المنظم مشدودة بصلابة وفيها حيوية وديناميكية.



فالعضلات بارزة والأعصاب متحفزة فقط، والتمثال ينم عن القوة والجرأة وعن إرادة قوية بعيدا عن الاستغراق في فردية التحكم بالذات.ولدى اكتمال التمثال قررت اللجنة المكونة من كبار علية القوم والفنانين، بأنه لا بد من وضعه في الساحة العامة للمدينة مقابل القاعة العامة.كانت المبادرة الأولى من نوعها منذ العصور القديمة التي يسمح فيها بعرض تمثال ضخم عار في مكان عام. وفي عام 1534 كلف البابا كليمنس في روما مايكل أنجلو برسم جدارية يوم الحساب، وهي أكبر جدارية منفصلة في ذلك القرن.



والانطباع العام الأول لدى مشاهدة تلك الجدارية بأنها عمل كوني، في مركز الجدارية جسد السيد المسيح القوي، وفي أسفل اللوحة العالم السفلي. وفي تلك اللوحة لم يختر مركزا لنقطة رؤية منظور اللوحة، كما اعتمد في نسب أجساد الشخوص الفردية والمجموعة على مقاييس العصور الوسطى، وقد رسم خلفية لكل شخصية ولكل مجموعة على حدة وبخصوصية منفردة، وقد أنجز اللوحة في عام 1541.



والجدير بالذكر بأن مايكل انجلو اضطر وهو النحات المرموق للقيام برسم سقف كنيسة سستين، عندما كلفه البابا بهذا العمل وأحرجه سيما بعدما رفض رجاءه الفنان رفائيل. وفي يوم 10 مارس من سنة 1508 كتب الفنان هذه العبارة - اليوم أنا مايكل انجلو، انجلو النحات، ابدأ في تصوير المصلى - وفي العام التالي أضاف العبارة - ليست هذه مهنتي فأنا أضيع وقتي .

ولكن العالم يشهد بأن ما حققه انجلو في تصويره موضوعات كنيسة سستين هو الإعجاز بعينه، فقد مزج الفنان بين النحت والتصوير في هذه الأعمال فبدت وكأنها لفرط قوتها وروعتها بارزة مجسمة على الحائط.

العمق والجمال

ولد رفائيل في عام 1493 لوالد فنان عرف في محيط دائرة الفنانين في أوربينو، وتتلمذ رفائيل لدى عدد من الفنانين، ولدى انتقاله إلى فلورنسا تأثر بأهم فنانيها مثل ليوناردو دافنشي ومايكل انجلو وبوناروني وغيرهم.

والعمل الأول الذي نفذه في روما بمفرده كان «القربان المقدس» للفاتيكان، وقد بنيت اللوحة اعتمادا على مركزيتين، فالنصف العلوي من الدائرة يمثل المسيح وهو يبارك المحيطين به من الجانبين والجالسين على غيمة نصف دائرية، ويجمع نصف الدائرة السفلي شخوص وكهنة الكنيسة.

وقد كان لبنية الموضوع صفة الوضوح والبساطة الشديدة، والتي توصل إليها رفائيل من خلال العديد من الرسومات والدراسات. ويمثل موضوع اللوحة قوة الكنيسة في الحكم والمستمد من القوة العليا.

والعملان الفنيان اللذان كانا علامة بارزة ومؤشرا على نضجه الفني نفذهما في عام 1506، وهما لوحتا «أغنولو» و «مادالينا دوني» وهما تصوران تاجرا وزوجته.

وموضوع اللوحتين يشابه لوحة الموناليزا. فوضعية الأشخاص وحركة اليدين مماثلة، غير أن أفق النظر للخلفية منخفض، وقد تأثر ببييرو في تقييم ودراسة الجسد من خلال دراسة الضوء الذي يحدد السطوح والأحجام. إن الصلة بين المشهد الخلفي والشخصية يقدم تناقضا واضحا مع «موناليزا» ليوناردو.

وما يميز هاتين اللوحتين عن لوحة ليوناردو، الإحساس العام بالثبات والعناية بالتفاصيل الدقيقة مثل نوعية الأقمشة والمجوهرات التي تعكس ثراء أصحابها، كما أنه لم يغفل أية تفاصيل مهما كانت ثانوية مما أعطى للعملين توازنا.

وقد تأثر رفائيل بتقنية ليوناردو في السيطرة على استخدام الضوء لتحقيق هدفه، كما يبدو تأثره بمايكل أنجلو واضحا في لوحته «مادونا ميدو».

وقد اكتسب رفائيل شهرته ومكانته كفنان مبدع بين أقرانه، لدى قيامه برسم جدارية «ستانزا ديلا سيجناتورا» والتي تتطلب إعدادها القيام بعدد كبير من الدراسات والرسومات التي أظهرت طاقته الهائلة في الابتكار والإبداع.وقد عكست لوحات رفائيل المهمة، خشوعه الديني الذي برز في الانسجام والتوازن.

وهذا أحد الأسباب التي جعلت رفائيل، واحدا من أهم مبدعي الفن في زمنه، مما جعله موضع الاحترام والدراسة في كل قرن. وقد توفي شابا وهو السابعة والثلاثين من العمر بعد مساهمته في جعله من مدينة روما أحد أهم مراكز الفن والثقافة التي وجدت على مر العصور.

ويشتهر رفائيل بأنه الفنان الذي صور الجمال وأشاعت لمساته الإحساس به في أعماله خلال عمره القصير حيث صورت لوحاته مختلف الشخصيات وما تعبر عنه من معان بالغة العمق.

ولا جدال في ان أسلوب الفنان وطريقته في التصوير قد جعلا منه شخصا محبوبا من الناس وله مريدون كانوا يحيطون به وهو يسير في شوارع روما. ثم كان أن أصيب الفنان العظيم بالحمى خلال قيامه بأعمال التصوير في الفاتيكان ومع غرب شمس السادس من أبريل عام 1520 م طويت بموته صفحة مشرقة من تاريخ التصوير في عصر النهضة.

وبصورة عامة فإن أعمال ليوناردو ومايكل أنجلو ورفائيل تشكل تركيباً مفتوحاً وهو تركيب حيوي متصاعد البناء، تكون اللوحة فيه دون أبعاد محددة، إذ إن الكتل المتواجدة فيها لا تتجمع في بؤرة واحدة، بل تتوزّع من خلال قوة طاردة، تتحرك من داخل اللوحة إلى خارجها ومحيطها، وفي كلا النوعين يكون التركيب متوازناً.

ويتم بناء العمل الفني على أساس ذهني أو غريزي أو كلاهما معاً. فالأساس الذهني لبنية اللوحة الفنية يقوم على أسس رياضية ذات نسب وأبعاد محددة كما في العمارة أو النحت الإغريقي، وهو الأساس الذي اعتمد عليه معظم فناني عصر النهضة الأوربية، أما الأساس الغريزي، فهو بناء عفوي للوحة الفنية، يتجاوز النسب والأبعاد الرياضية المعهودة من أجل أبعاد معنوية وجمالية جديدة.وشملت النهضة العمرانية في البندقية حركة نشطة مزدهرة في الفن.

فقد طلب من الفنانين تزيين الأبنية الجديدة بلوحات جدارية. وقد ألم فنانو البندقية إلى جانب رسمهم للوحات الضخمة ذات المواضيع الدينية والتاريخية والأسطورية بكافة أنواع الفن الأخرى.ولم يكن فنهم يحظى بالاحترام الكامل في البداية، بل كان ينظر إليه بدونية مقارنة بفن زملائهم في المدن الأخرى على الرغم من أهمية هذا الفن الذي شهر المدينة الفريدة وقنواتها في كافة أنحاء العالم.

وقد أثبت هؤلاء الفنانون وجودهم في ساحة الفن بجدارة، ففي العقد الأخير من القرن الخامس عشر قدم الفنان جنتيل بلليني ومساعدوه عملا متميزا لمجموعة رسومات تيليري في قاعة البيرغو ديلا سكولا.والجدير بالذكر أن العديد من فناني شمال أوروبا استقروا في البندقية وساهموا في ازدهار الحركة الفنية فيها، مثل الفنان جوزيف هينتز الأصغر ( 1600-1687) والذي ولد في أغسبرغ وتدرب في بلاط بوهيميا، وأعاد إحياء فن الفيدوتا الخاص بالبندقية.

كان ذلك في القرن السابع عشر، وقد أنتج مجموعات عديدة من اللوحات ذات المواضيع التاريخية والدينية والتي كانت جزءا من احتفالات ومهرجانات البندقية. ويظهر في لوحاته طابع فن شمال أوروبا المتسم بالرسم الواقعي مع مراعاة الدقة المتناهية مع اعتماده على الألوان الحيوية والتي طغى تأثيرها على لوحات فناني القرن الثامن عشر.

ومن أشهر الفنانين أيضا، لوكا كارليفاريجس ( 1663 - 1730) الذي ولد في فيريولي، وقد اعتبر الأب الروحي لفن القرن الثامن عشر الفينيسي (فيدوتا). كان في بداية إقامته في البندقية يرسم المشاهد الطبيعية معتمدا على نمط فن شمال أوروبا، ثم مع مضي الوقت تحول إلى الفن الخاص بالبندقية، وبات يرسم مسيرات القوارب في المياه ومشاهد من الاحتفالات العامة حيث بدا تأثره بالفنان بليني واضحا.

لقد أصبحت تطورات الواقعية في عصر النهضة على أيدي هؤلاء الكبار أدوات رئيسية لجميع مستكشفات الحياة فيما بعد في الفن وبهذا المعنى يكون عصر النهضة نهاية حقبة وبداية حقبة أخرى. فهذا الفن وعلى أيدي هؤلاء العظام يعتبر من إلهامهم الذين فرضوا فيما بعد الرعاية المستنيرة على من جاء بعدهم وحتى يومنا الحاضر.

تأليف :أنتيللا فلورنس

عرض ومناقشة رشا المالح





أين نحن من ثقافة الحب؟

تقول الحكمة القديمة إنه بالحب يحيا الإنسان، وإذا كان الحب حاجة دفينة أصيلة في نفس الإنسان فإنه لا يمكن للإنسان أن يعيش من غير الحب أو أن يتوقف عنه. والحب عند أفلاطون: «عامل خلق وإبداع بل هو عامل تربية وتهذيب والتربية ليست شيئاً آخر غير الحضور المستمر للحب».



ويستطيع الحب كما يقول كاردان أن يطور الكائنات الإنسانية وأن يجمع بينها. والإنسان الكامل هو الذي يعيش في دائرة الحب حاباً ومحبوباً. والإنسان كما يرى ذلك الفيلسوف «لن يستطيع أن يصل إلى مستوى نضجه الروحي من غير تأثير مشاعر قادرة على إثارة ذكائه وإزكاء طاقته وهي مشاعر تمتثل مبدئياً في طاقات الحب لديه». والحب الإنساني يقود إلى الشعور بالانتماء والوحدة وهو من أشد تجارب الحياة انبعاثاً للبهجة والإثارة، وبالتالي فإن الانفصال يعني السقوط في عبودية الأشياء وفقدان القدرة على الفعل. وعليه إما يتحول إلى «حالة سلبية» أو «حالة إيجابية» تبعا لمنبعه ومجراه، وفي المجمل وغالبا في مجتمعاتنا يجري الحب في قنوات قسرية تحيد عن مجراها الطبيعي، لينتج كائنا غريبا عن محيطه وعن نفسه. وقد تناول الأديب البرازيلي باولو كويلو الذي اشتهر بروايته الخيميائي، في كتبه لحالات الحب القسرية ابتداء من مرحلة الطفولة وحتى الكهولة.



ومن خلال عوالمه التي قدمها في مجموعة أعمال منها «فيرونيكا تقرر الانتحار» و»حاج كومبوستيلا» و»الجبل الخامس» و»والظاهر» و»قرب نهر بيدرا، جلست أبكي» سنقدم قراءة لمفهوم الحب بمختلف صوره بالتوازي بين جوهر ثقافته والواقع الشرقي وربما الغربي أيضا. بذرة الحب تكون العائلة بمثابة الأرض الحاضنة لبذرة الحب لدى قدوم كائن جديد إلى العالم، وبالتالي تشكل أجواءها العوامل التي ستساهم في رعاية نموها وتبرعمها أو تشوهها. ومن خلال كتابه «فيرونيكا تقرر الانتحار» يمكن الدخول إلى عالم الحب في الطفولة.»إن كنت تحبني، عليك أن تنهي وجبة طعامك»، تلك عبارة شائعة لم يخلو بيت عائلة من ترديدها أو ترديد ما هو قريب منها بصورة يومية، لتنسحب هذه المقولة على أمور وقضايا أكثر أهمية ولترتبط باهتمامات وهوايات الأبناء سيما في مرحلة المراهقة مرحلة تبلور كينونتهم».



باسم هذا الحب يفرض على الأبناء سلوكيات لا تتوافق مع ميولهم. من منا لم يعش مثل هذه المقاربة في حياته! ولكن كم هم الذين أدركوا تبعة مثل هذه المقاربات! تحت مقولة الحب، يفرض الوالدان على أبنائهم تحقيق أحلامهما الشخصية التي لم يكتب لهما تحقيقها. «أريدك أن تكون طبيبا أو مهندسا .. وترفع اسمي عاليا».



وحينما ييأس الوالدان من إقناع الابن أو الابنة باختيار مسار مختلف عما يحلمون به، يلجآن إلى سلاحهما الأخير: »ماذا عن حبنا لك، وتضحيتنا بحياتنا لأجلك .. جل ما نرغب به ينحصر في منحك فرصة ممتازة في الحياة». وحينما لا يجدان التجاوب، يزيدان الجرعة إلى أقصاها لتبلغ حد التهديد أي الابتزاز العاطفي والفكري، «إن كنت تحبنا حقا، فإننا نرجوك باسم هذا الحب أن تفعل ما نريده منك .. لا تكن جاحدا لوالديك الوحيدين اللذين يكنان لك الحب ويبحثان عن مصلحتك». »منذ ولادتك، بدأنا ببناء مستقبلك. أنت كل شيء في حياتنا، نجاحك هو ثمرة كفاحنا. كافحنا كثيرا لتحقيق ما هو متوفر لك الآن.. كل ذلك لأجلك فلا تحطم مستقبلك (ويقصدان أحلامنا)». ويختم الوالدين، أو أحدهما الخطاب بالقول، «إن كنت لا تحبنا.. فافعل ما شئت».


مفهوم الحب بين الرجل والمرأة
ربما يحقق الابن حلم الوالدين سواء في اختيار دراسته أو مهنته أو المرأة التي سيرتبط بها وغير ذلك من قرارات مصيرية في حياته. ما يحدث في مثل تلك الحالات أن الابن أو الابنة يلغي ذاته ويحقق ما يريده الآخرون منه. وهذا في الواقع بداية انهيار عالمه الداخلي الذي يتهاوى تدريجيا، ليعيش دورا لا يمت له بصلة.

ولا عجب أن نجد العديد من الرجال والنساء الذين يدمرون كل ما حولهم بعد مضي جزء كبير من عمرهم لنسمع منهم، «أديت رسالتي وأريد أن أعيش الآن لنفسي»، كم فرد منا تبادر إلى ذهنه أن هؤلاء كانوا ضحية لمجتمعهم واستيقظوا فجأة في خريف العمر ليتداركوا قليلا مما فاتهم، وإن كان للأسف بصورة فوضوية تنتهي بتدمير الذات.

هذه الإرهاصات أو الضغوطات الداخلية، تحول الفرد إلى شخصية مضطربة ذات ازدواجية في السلوك، وربما غاضبة أو حاقدة تسعى لتدمير الآخرين بداية، ثم نفسها لاحقا وذلك على المدى البعيد، أو في أحسن الأحوال شخصية سلبية لا تملك أي تفاعل إيجابي مع الحياة. وهكذا يصبح «الحب» في نظر الابن أو الابنة البارة كابوسا .. قيدا حرمه من أحلامه ومن نفسه .. ومن هنا ينشأ الاغتراب عن النفس ولاحقا الأمراض النفسية.

ما الذي يجعل شخصا ما يكره نفسه؟

ربما الجبن .. أو الخوف الدائم من أن يكون أقل مما هو متوقع في مقياس رضا أو إعجاب الآخرين سيما عائلته. ومثال آخر على تبعات الحب السلبية، الحب المتفاني. فهذا الحب السخي المعطاء بلا حدود الذي يكون محور حياة الأم أو الأب والذي لا يمنح فسحة من الراحة للواهب أوالمتلقي، يولد في المتلقي إحساسا بالذنب وحاجة قسرية للارتقاء لمواكبة ذلك العطاء، مما يدفعه من دون وعي منه إلى إلغاء ذاته والعيش في فلك الواهب، ولتكون حياته جهادا دائما ليقدم ما هو مواز للعطاء.

وهكذا تتمحور حياة المتلقي حول الرغبة في تحقيق طموحات وتوقعات الواهب، حتى لو تطلب الأمر التخلي عن جميع أحلامه الشخصية وبذا فإنه يفقد نفسه وهويته وفرديته.
تلك التوقعات والآمال غير المعلنة والتي يعبر عنها بصورة غير مباشرة من خلال الإشارة إلى رموز النجاح التي يراها الواهب سواء بالكلمات أو بإطلالة عينين كسيرتين زاهدتين لدى ذكر أحد الرموز، تدفع المتلقي اليافع إلى دفن ووأد أحلامه في الأعماق.
وكلما تنامت التضحية كلما ازدادت الإرهاصات في ذات الشاب أو الشابة، حتى يأتي اليوم الذي تتفجر فيه في إطار المجتمع سواء في تحميل الآخرين إثم إحباطهم الداخلي أو الإصابة بالاكتئاب أو أي من الأمراض النفسية أو العصبية. ذلك ما عرضه باولو في روايته من خلال أبطال شخصياته التي تعيش في مصحة للأمراض النفسية، فمنهم من حاول الانتحار ومنهم من أصيب بالاكتئاب الذي شخص بالشيزوفرنيا ومنهم من تعرض لحالة انهيار عصبي وغير ذلك من أمراض المجتمع.
والأمثلة على مثل تلك النتائج عديدة في مجتمعاتنا، فكم من الشبان هم الذين يحملون كما هائلا من الغضب وعدم الرضا عن النفس، ماذا عن الازدواجية واتخاذ المهنة وسيلة للنيل من الآخرين، والزوج من الزوجة أو العكس، والحماة من الكنة ، حيث يسعى كل منهم لتحويل حياة من هم أضعف منه إلى جحيم بهدف التخفيف عن عبئه النفسي الداخلي.
كيف يموت الحب بعد الزواج؟

يقول باولو «دعونا نتخيل كم من ملايين البشر في هذه اللحظة، يشعرون أنه لا معنى لحياتهم سواء كانوا أثرياء أو ناجحين على الصعيد المهني أو الاجتماعي، وذلك لكونهم في هذه اللحظة يشعرون بالوحدة، تماما كالأمس وربما الغد أيضا.

»طلاب، بلا أصدقاء يلجأون إليهم. كبار في السن، لا تسلية لهم سوى الجلوس قبالة التلفاز. رجال أعمال في غرف الفندق، يتساءلون إن كان ما يفعلونه له أي جدوى. نساء يتزين بعناية ليخرجن إلى الرفقة أو الشريك، فقط للتأكد أنهن مازلن مرغوبات، وهن يخشين أي تواصل أو تعارف يمكن أن يظهر حاجتهن لشريك، أو جهلهن بما يدور من أحداث في محيط الحياة بسبب انشغالهن الدائم في العمل وتربية الأبناء وغير ذلك... »وأشخاص ينظرون إلى أنفسهم في المرآة ويعتقدون أنهم قبيحون، إيمانا منهم أن الجمال هو الأهم في الحياة، ويقضون أوقاتهم في قراءة المجلات عن كل من هو جميل وثري ومشهور».
ربما كانت تلك النماذج التي استعرضها باولو بعيدة عن مجتمعاتنا في الماضي، ولكن مع انفتاح العولمة والفضائيات وسيادة العالم الاستهلاكي، باتت تلك النماذج جزء لا يتجزأ من عالمنا الشرقي.
»أزواج وزوجات يتوقون إلى حوار مع الآخر في المساء، كما في بداية الزواج، لكن دوما هناك أمورا وقضايا أكثر أهمية تتطلب اهتمامهم. أما الحوار فدوما مؤجل إلى الغد الذي لا يأتي مطلقا.
»نسمع من شخص ما انفصل حديثا يقول، «الآن، أستطيع الاستمتاع بحريتي التي طالما حلمت بها»، لكن هذا غير صحيح، لا أحد منا يريد هذه الحرية. جميعنا نرغب في أن يكون لدينا شريك يشاطرنا حياتنا، يحبنا ونحبه نتناقش معه في أي موضوع كان مهما كان تافها.
»من الأفضل العودة إلى المنزل لنواجه بعض المنغصات الصغيرة، على أن نكون بمفردنا بالمطلق. ونحن هنا نتحدث عن الوحدة التي فرضت علينا وليس بخيارنا».
إلا أن الكثيرين، وهم في ازدياد، يحجمون عن الدخول في تجربة ارتباط جديدة، ولسبب بسيط يتمثل في الخوف من الوقوع في فخ هيمنة المجتمع عليهم، فالزواج في الشرق لا ينحصر بالشريك فقط بل يضم جميع أفراد عائلته وأقربائه والذي يمنحهم الحق للتدخل في مسار طبيعة حياة الشريك وخصوصيته.
بعد استعراض هذه المقتطفات من كتاب «الظاهر « لباولو، سندخل في عمق الحياة الزوجية التي يخبو الحب فيها بين الزوجين بعد مضي بضعة سنوات، ليجزم الأغلبية أن الحب الذي نبض في القلب كان مجرد نزوة أو انجذاب كيميائي وغير ذلك من مبررات.
لنستعرض في البداية مخزون فكر كلا الطرفين عن مفهوم الارتباط سيما في مجتمعاتنا الشرقية. بالنسبة للزوجة فالغالبية من النساء ترى في الزواج الاستقرار العائلي والمادي حيث يتمثل دورها ومهمتها في الحفاظ عليه وحمايته من أية تغيرات أو مستجدات قد تهدد أمنه سيما على الصعيد المادي والأهم من ذلك التغير الفكري الذي لا تضعه في الحسبان بداية. أي أن دورها ينحصر في التمسك بالوضع المستقر كما هو عليه عند الزواج ليتحول إلى رتابة وروتين مدى الحياة.
أما فيما يتعلق بالرجل فهو يرى في الارتباط تكوين أسرة بمثابة امتداد له، ومهمة المرأة تتمثل بعد الزواج في الحفاظ على راحته وتلبية احتياجاته وأبنائه، ليكون بيته ملاذه الآمن بعد نهاية يوم شاق. كل ذلك من دون أن يعي كلاهما حاجته الإنسانية إلى شريك له في الحياة يشاطره أفكاره وهمومه، وتأملاته.
وبذا يتم الارتباط على مبدأ مادي موضوعي، ليكتشف كلا الطرفين بعد مضي بضعة أعوام بأن كل منهما يعيش وحدة قاسية مع نفسه على الرغم من قيام كل منهما بواجباته على أكمل وجه.
وذلك لكون دور كل منهما لا يكمل إنسانية الفرد في داخلهما. ويتم التعبير عن تلك الوحدة بتذمر كلا الطرفين من رتابة الحياة ويسعيا إما إلى كيل الاتهامات للآخر في أية فرصة متاحة أو التقوقع على الذات والانحسار عن المحيط أو البحث خارجا عن ملاذ آني، وإن اتفق الطرفان على أمر واحد فقط وهو أن الحب بعد الزواج يخبو ويضمحل ويتحول إلى مؤسسة أكثر بيروقراطية من أية مؤسسة أخرى عرفها التاريخ.
كيف يخبو الحب الأمثل ؟


نموذج آخر لتلاشي الحب بعد الزواج، حينما يرتبط شخصان متفردان لهما تطلعاتهما في الحياة التي تتجاوز الروتين الطبيعي للحياة الزوجية، وهو ما تناوله باولو في كتابه «الظاهر» بصورة عميقة ودقيقة والمتمثل في المقولة، كيف يموت الحب بعد زواج مثالي.
يتمثل ذلك حينما يتعرض الزواج لبعض المنعطفات، وعلى سبيل المثال حينما يعلن أحد الطرفين عن حاجته أو رغبته في تغيير مهنته أو الانتقال إلى العمل الحر أو العكس أو حينما تقرر الزوجة متابعة تحصيلها العلمي أو البحث عن فرصة عمل لتحقيق ذاتها وغير ذلك من أمثلة.
إن ما يحدث في مثل تلك المنعطفات، هو أن طموح أو تطلعات أحد الطرفين لحياة أفضل سيما إن تمكن من التقدم في المسار الجديد، يهدد الآخر الذي يتمسك بالاستقرار والرتابة، ويشعره بفقدان الأمان وهو في الواقع إحساسه بالدونية أمام الطرف الآخر. وعليه يبدأ الطرف المتمسك بالثبات بخوض معركة مع الآخر لسحبه إلى الوراء إلى دائرة الثبات، والنتيجة غير بعيدة عن الواقع فإما أن يستسلم المتقدم ليعيش مرارة الحياة ويعزل نفسه عن الآخر أو ينفصل الاثنان ويجهض الحب الذي كان في البداية متألقا.
نتجرد من الحب حينما نغتال أحلامنا ..

وفي النهاية لا أدل من الصورة التي رسمها باولو لمسيرة حياة الإنسان في كتابه «الحاج كومبوستيلا» وهو بمثابة رحلة تأمل للنفس والحياة معا. »إن المعركة الجيدة، هي التي نخوضها بهدف الدفاع عن أحلامنا. حينما كنا فتيانا، كانت أحلامنا تتفجر في داخلنا بملء طاقتها. كنا حينها نتحلى بالشجاعة، إلا أننا لم نكن قد تعلمنا بعد كيف نحارب. وحينما تعلمنا كيفية المحاربة بعد جهد كبير فقدنا شجاعتنا للدخول في صراع جديد».

»وعليه، انكفأنا على أنفسنا ليستمر الصراع في داخلنا فقط، ولتصبح ذاتنا ألد عدو لنا. ونردد لأنفسنا بأن أحلامنا كانت طفولية أو صعبة المنال وبعيدة عن الواقع. وبذا نقتل أحلامنا خوفا من مواجهة معركة جديدة. ونقنع أنفسنا أننا من خلال تخلينا عن أية مطالب تزيد عما نريد تقديمه، فإننا ننشد السلام».

»كما نعتقد بأننا نتصرف كناضجين، وبحكمتنا نركن جانبا أحلام شبابنا، ونبحث عن انجازات على الصعيد المهني أو العام. ولشد ما نفاجأ حينما نلتقي بأشخاص من عمرنا لا يزالوا يتحدثون عما ينشدونه من الحياة».

»لكن الحقيقة المرة، أننا ندرك ونعي في أعماق قلوبنا بأننا تخلينا عن معركتنا الخاصة بأحلامنا. وحينما نتخلى عن أحلامنا، فإننا نعيش حالة السكينة لفترة زمنية قصيرة. إذ أن الأحلام الميتة في داخلنا تبدأ بالتعفن لتفسد حياتنا بأكملها».

»في البداية، نصبح قساة في التعامل مع من حولنا، ومن ثم نوجه تلك القسوة إلى أنفسنا. حينها تبدأ الأمراض الجسدية والنفسية بالهيمنة علينا».

ترى إلى أية فئة كل منا ينتمي؟ وما هو السبيل لتحرير الحب من تشوهاته؟!


رشا المالح - البيان

الأحد، 4 يوليو 2010

رحيل الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو


2010-06-19 03:34:54 UAE

أسطورة روائية شغلت أهل الأدب والسياسة ونال جائزة نوبل


رحيل الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو



توفي أمس الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1998، عن عمر يناهز 87 عاما في مقر إقامته بجزر الكناري. وصرح ناشره زيفيرينو كويلو للصحف أن صحة ساراماغو كانت تتدهور بعد مرضه مؤخرا.









كان ساراماغو حاز على شهرته العالمية، من خلال رواياته التي تناول فيها واقع الاضطرابات السياسية في بلده خلال أربعين عاما، بأسلوب تجريبي جمع فيه بين الواقعية والسريالية، مثل روايته (بالتاسار وبليموندا) و(العمى) التي حولت إلى فيلم سينمائي من إخراج البرازيلي فيرناندو ميريل عام 2008. ويعد ساراماغو أول كاتب برتغالي يفوز بجائزة نوبل، وباع ما يزيد على مليوني نسخة من رواياته. وهو من الشخصيات السياسية التي تبنت الفكر الشيوعي، وقد قام بعد فوزه بالجائزة بتقديم العديد من المحاضرات في المؤتمرات العالمية برفقة زوجته الصحافية الاسبانية بيلار ديل ريو. وقد وصف العولمة بأنها انعكاس لفشل الديمقراطية المعاصرة أمام تصاعد نفوذ الشركات ذات الجنسيات المتعددة.





وعلى الصعيد المهني فإن إبداع ساراماغو أتى متاخرا، إذ نشر أول رواية له حينما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وتبعها مرحلة صمت استمرت لمدة 30 عاما. ولم يتفرغ كلية للكتابة إلا في أواخر الخمسينات من عمره، بعد عمله ميكانيكياً في إحدى الورش، وكموظف في مؤسسة بيروقراطية للرعاية الاجتماعية، وكمدير إنتاج في مطبعة، ومدقق لغوي ومترجم وكاتب عمود في إحدى الصحف.





أما نجاحه الأكبر فأتى بداية مع رواية الحب المرحلة التي حملت عنوان (بالتاسار وبليموندا)، والتي تدور أحداثها في البرتغال في القرن الثامن عشر، ويصور العمل المآزق التي يتعرض لها أبطال عمله وهم ثلاث شخصيات من غريبي الأطوار وذلك بسبب أسئلتهم. وهؤلاء الشخصيات هم كل من القسيس المتهم بالهرطقة الذي يصنع آلة تطير، والجندي السابق بذراع واحدة وحبيبته ابنة ساحر وتتمتع برؤى أشبه بالصور الشعاعية (إكس راي).





وما إن ترجمت هذه الرواية إلى الانجليزية ونشرت في بريطانيا عام 1987، حتى اكتسب ساراماغو شعبية عالمية واسعة. وقد وصف الناقد أيرفينغ هو عمله ذا الوحدة المتكاملة بقوله، (واقعية قاسية بأسلوب الفانتازيا).





ووصف أسلوبه من قبل أحد النقاد بالتالي، (جوزيه ساراماغو متجاوز لعصره وتقليدي في الوقت نفسه. وفقراته الطويلة بسرد متدفق لا يشمل أيا من الفواصل وعلامات التنقيط، يبدو مستعصياً وحداثياً، غير أن عادته الدائمة في تسليم السرد برواياته إلى (كورس القرية) أو بالأحرى إلى أسلوب القروي البسيط، يتيح لساراماغو الكثير من المرونة).





عاش ساراماغو الذي ولد عام 1922 في قرية آزينهاغا التي تبعد 60 ميلاً عن لشبونه، في كنف جديه في حين كان والداه يبحثان عن العمل في المدينة الكبيرة، وفي خطابه لدى تسلمه جائزة نوبل، تحدث بحب وتقدير عن جديه القرويين والأميين، اللذين كانا ينامان في الشتاء بسرير واحد مع حيواناتهما، واللذين نسب إليهما الفضل في اكتسابه لسعة الخيال والتراث الشعبي، بالإضافة إلى احترام الطبيعة.





وتحدث في أحد كتبه الأخيرة والمؤثرة (ذكريات صغيرة)، عن الصدمة التي واجهها حينما انتزع في طفولته من كنف جديه في القرية النائية، ليزرع في لشبونه حيث كان يعمل والده في الشركة، وصدمته الأخرى حينما توفي شقيقه الأكبر بالسل بعد بضعة أشهر.





وكان يحب أن يحكي قصة حصوله على اسمه دي سوزا، يقول انه في اليوم الأول له في المدرسة حينما كان في السابعة من عمره اكتشف لدى تقديم شهادة ميلاده، أن موظف القرية سجله باسم جوزيه ساراماغو، والاسم الثاني يعني (الفجل البري) الذي توجب على أهل القرية أكله في الأيام الصعبة.





وهو الاسم الذي كان يطلق على والده تهكماً. وأفاد في مقابلة مع عام 2007، أن عائلته بقيت تعاني من الفقر حيث كانت والدته ترهن كل ربيع مفارشهم على أمل استعادتها في الشتاء التالي.





وعلى الرغم من كونه تلميذاً نجيبا في المدرسة، فرض الواقع الاقتصادي على والديه سحبه من مدرسة (غرامر) حينما كان في الثانية عشرة من عمره وتسجيله في مدرسة أقل تكلفة حيث تدرب كميكانيكي سيارات.





وتعتبر روايته (سنة موت ريكاردو ريس) التي نشرها عام 1999 من روائع أعماله، وهي الرواية الوحيدة التي تناول فيها الدكتاتور أنطونيو دي أوليفيرا سالازار. وتدور أحداثها عام 1936 الفترة المظلمة من تاريخ أوروبا لدى صعود نجم هتلر وفرانكو وموسوليني وسالازار. وتحكي القصة عن مغادرة طبيب وشاعر للبرازيل والعودة إلى لشبونة الفاشية.





ساراماغو .. مواقف سياسية





ولد جوزيه دي سوزا ساراماغو في 16 نوفمبر عام 1922 في بلدة ازينهاغا وسط البرتغال لعائلة مزارعين لا ارض لهم نزحت الى لشبونة ثم اضطر إلى وقف دراسته الثانوية لأسباب اقتصادية للالتحاق بالدراسة المهنية، حيث تخرج صانعا للأقفال، وزاول حرفا يدوية عديدة قبل العمل في الصحافة، والترجمة ليتفرغ فيما بعد كليا للكتابة.





حيث أصدر راويته الاولى «ارض الخطيئة» في العام 1947 و انتظر 19 عاما ليصدر كتابه الثاني وهو ديوان شعري بعنوان اشعار ممكنة». وخلال تلك الفترة عمل في الصحافة والنشر، ثم انخرط في صفوف الحزب الشيوعي الذي كان سريا في العام 1969، وشارك في ثورة القرنفل في 25 ابريل عام 1974.





صدرت روايته الثانية «وجيز الرسم والخط» في العام 1977، لكنه لم يعرف الشهرة الا في العام 1982 وهو في سن الستين مع رواية «الاله الاكتع» وهي قصة حب تدور احداثها في القرن الثامن عشر.





في العام 1992 اثار ساراماغو جدلا كبيرا جدا في البرتغال بسبب كتابه «الانجيل بحسب يسوع المسيح» فغادر حينها وطنه الى ارخبيل الكاناري الاسباني. وخلال ستين عاما اصدر ساراماغو حوالى 30 عملا راوحت بين الرواية والشعر والمحاولات الادبية والمسرحيات.





في العام 1998 حاز، جوزيه ساراماغو على جائزة نوبل للآداب وهو في السادسة والسبعين من العمر، ليكون بذلك أول كاتب برتغالي يحصل على جائزة بهذه المرتبة.





وقد عرف بمواقفه السياسية ولم يخف يوما آراءه اليسارية، في عام 2002، وحينما كان ياسر عرفات محاصراً في رام الله بعد انتفاضة الأقصى، زار جوزيه سارماغو برفقة كتاب عالميين رام الله، وكان من بينهم كتاب حاصلون على نوبل، مثل: ويل سوينكا النيجيري، وبرايتن برايتنباخ الجنوب أفريقي، وخوان غويتيسولو الإسباني. وبعد خروجهم من هناك.





وبعدما رأوا ما يجري، شبه ساراماغو، رام الله بمعسكر الاعتقال النازي أوشفيتس، ما دفع إسرائيل لمهاجمته واتهامه بالوقوع ضحية (الدعاية الفلسطينية الرخيصة)، فردَّ صاحب «العمى» ساخراً: إنني أفضل أن أكون ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة بدلاً من أكون ضحية للدعاية الإسرائيلية الباهظة التكاليف.





هشاشة الانسان





باتت كتابات ساراماغو في سنواته الأخيرة تميل إلى الرمزية والمجازية. ففي رواياته مثل (العمى)، حيث تصاب مدينة بأكملها بوباء العمى مما يحول سكانها إلى مواطنين بربريين، ليعكس مدى هشاشة مدنية الإنسان.





روائي بارز





وقف ساراماغو كروائي في الخمسة وعشرين عاماً الأخيرة، صرحا بمفرده وموازيا إن لم يكن متجاوزا لكتاب العالم الغربيين أمثال الأميركي فيليب روث (1933)، والألماني غونتر غراس (1927).





إعداد ـ رشا المالح
البيان










مقابلة مع الكاتبة السورية مهاة فرح الخوري




2009-07-05 00:11:36 UAE

مهاة الخوري: أديباتت الحاضر بلا رصيد


مهاة فرح الخوري مسيرة حياة غنية حافلة بالعطاء الفكري والأمومي والأدبي. وهي من الكتاب القلائل الذين قدموا وأضافوا للحياة بدل الأخذ منها. ومن الشخصيات العصامية التي علمت وثقفت نفسها بنفسها، وتجاوزت بمعرفتها ولغتها العربية والفرنسية ودراساتها الفردية، أكاديميين من حملة الشهادات العليا.

وهي من الأفراد الذين حولوا مصاعب الحياة وأزماتها إلى تحديات دفعتهم إلى المزيد من التقدم والعطاء. ومن النساء الذين خذلهم الزمن ولم يرحمهم، إذ اختطف الموت شريك حياتهن في ربيع العمر، ليحملن بمفردهم أعباء تربية وإعالة ثلاثة أبناء في زمن لم يألف بعد خروج المرأة إلى العمل.


مسيرة الكاتبة مهاة تاريخ حافل بالأحداث والقضايا والتفاعلات بالتوازي بين الخاص والعام. فكما بكت وفاة زوجها وصديق عمرها، بكت عندما زار أنور السادات رئيس مصر السابق الأرض المحتلة واستقبله المغتصبون عام 1977. وكما عاشت شعائر الحداد على فقيدها في الستينات، جددت الشعائر ورفضت الاحتفال بالأعياد وأبناء بيت لحم الأبرياء تراق دماؤهم هدرا. وكلما ضاق بها الحال ارتقت بمعرفتها وعلمها واتسعت إنسانيتها لتحمل أوجاع وهموم الوطن. وإن حجب عنها المجتمع آنذاك العديد من الميزات، فقد ابتكرت لنفسها عوالما منحتها القوة والعطاء والإبداع.
مهاة الدمشقية


أول امرأة سورية حصلت على شهادة ترجمان محلف في اللغة الفرنسية عام 1974، وعلى «وسام الاستحقاق الثقافي البولوني» عام 1973 لدراساتها عن الموسيقار فريديريك شوبان (1810 ـ 1849) وعالم الفلك غاليليو (1473 ـ 1543) الذي أثبت أن الكرة الأرضية تدور. كما منحتها الحكومة الفرنسية «وسام السعف الأكاديمي» بدرجة فارس لجهودها في الترجمة والمشاركة في القضايا الإنسانية وعلى رأسها فلسطين.

«مسارات» ألتقت بالكاتبة المخضرمة مهاة الخوري خلال زيارتها لدبي مؤخرا، للتعرف على بعض محطات رحلتها الفكرية والإنسانية التي تشكل جزء من التاريخ المحلي والعربي والإنساني، ومسيرة العطاء التي لا تنضب ولا تعرف اليأس.


الماضي الحاضر


تشارك الكاتبة مهاة حاليا في عضوية هيئة الأمانة العامة الأهلية السورية لاحتفالية «القدس عاصمة الثقافة»، وقد أهدت كتابها الجديد «لأجلك ياقدس» إلى القدس بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة.


وقالت عن مضمون كتابها، «يتضمن كتابي جميع المقالات التي كتبتها عن فلسطين ابتداء من السبعينات وحتى ما قبل أحداث غزه. وأرصد فيها تفاعلي مع الأحداث المفصلية والنكبات التي عاشتها فلسطين وعشناها معها. من ضمنها قدوم مطران القدس إيلاريون كبوجي إلى دمشق عام 1978 بعدما كان سجينا لمدة ثلاث سنوات في سجن العدو.





ومع ذلك وعلى الرغم من أن عمره الآن 86 عاما، فقد ذهب مؤخرا مع أول باخرة إلى غزه. لم أستطع النوم أو القيام بأي فعل حتى كتبت ما اعتمل في داخلي بعد سماعي بمبادرته التي عجز أمامها الشباب».

رحلة الكتابة

تقول «أكتب عن أي موقف أو حدث أو لقاء يهزني من الداخل وأتفاعل معه، ولا أرتاح حتى أخطه على الورق. كتبت الشعر والقصة والمقالة وقدمت دراسات وأبحاث.
شاركت مهاة في تنظيم مهرجانات وألقيت عددا من المحاضرات عن دراساتي التي قدمتها عن علماء وكتاب أجانب وعرب. في السبعينات دفعتني ترجمتي للكتاب الفرنسي «تاريخ العمل» إلى التفكير بإعداد دراسة أو بحث عن «العمل في سوريا» والتي تحولت خلال عملي عليها إلى كتاب. كل ذاك الرصيد من العمل والترجمات التي تقدر بـ 14 عملا، وأنا التي لم أدرس في الجامعة ولم أحصل على أية درجة أكاديمية».


ورحلة عشقها للغة العربية بدأت كما أشارت، «من إعجابي بوالدي ميشيل فرح الذي كان مرجعا ثقافيا وحجة في القرآن وإن كان مسيحيا! ووالدتي التي كانت راوية في الشعر وبمثابة ذاكرة للاستشهاد بقصائد الشعراء العرب الكبار. أي عشت في كنف عائلة تقدس الأدب واللغة. وأحب التنويه إلى أن والدي لم يحصل على أي من الشهادات العليا كان مقدرا على أنا أيضاً أن أسير على دربه».


وتتابع، «أحب أن أورد مثالا على دور اللغة في حياتنا آنذاك. عندما تأسست إذاعة دمشق كان المذيع يقول (إليكم نشرة الأخبار)، كان والدي حينها يمتعض ويقول هذا خطأ شنيع عليه أن (هاكم نشرة الأخبار)».


تجري الرياح بما...


تقول مهاة إن زوجها كان مثل والدها مدرسا محبا للعلم ومشجعا لي. في البداية عملت بالتدريس للمرحلة الابتدائية لتحسين دخل الأسرة لمدة سبع أو ثمان سنوات. عملت بعد ذلك في الصحافة الفرنسية في دمشق كمحررة ومترجمة لمدة ثلاث سنوات. كنت خلال تلك الفترة أكتب انطباعات عامة لكل ما أتفاعل معه من قضايا الحياة، وأنشر في جريدة النصر كنت في أوائل العشرينات من عمري. كما كنت أقدم حديثا صباحيا في إذاعة دمشق عن المرأة»، قالت مهاة عن المرحلة الأولى من حياتها.


وأضافت، «ومع ازدياد المسؤوليات استقلت من وظيفتي عام 1961 لأتفرغ لعائلتي. وما إن مضي عام حتى اختطف الموت زوجي على حين غرة. كان عمري حينها 31 عاما وأعمار أولادي 12 و4 و3 سنوات. وفي غمرة أحزاني كنت أخاطبه على الورق وأبثه حزني وألمي على فراقه. وفي أحد الأيام قرأ والدي ما كتبت واطلع صديقه الشاعر الكبير عبدالكريم الكرمي (أبو سلمى) عليها. والذي بعث بدوره أحد النصوص إلى مجلة «المضحك المبكي» لتنشر باسم مستعار.


ومن الذين اطلعو على النص، أديبنا الكبير المرحوم الدكتور عبدالسلام العجيلي الذي قال لي: اطبعي الأعمال وأنا أكتب لك المقدمة، وهكذا نشرت المجموعة في كتاب بعنوان اختاره والدي لي «وكان مساء». بالطبع نشرت الكتاب باسمي، كما ساهم الفنان السوري الكبير الياس زيات (تلميذ الوالد سابقا وصديقه لاحقا) بتقديم صورة غلاف الكتاب».


تحديات بلا نهاية


بسؤالها عن كيفية حصولها على شهادة ترجمان محلف للغة الفرنسية وتمكنها من اللغة والبحوث دون دراسة أكاديمية أجابت، «حصلت على شهادة الثانوية ودرست بعد زواجي صف الثقافة العامة التمهيدي للكليات الأدبية، إلا أن الأمومة حالت دون استمراري وإن لم تشكل عائقا أما حبي للمعرفة وتعليم نفسي.


في البيت كنت أساعد زوجي المرحوم أستاذ الجامعة والمساهم في تأسيس كلية العلوم وخريج فرنسا، في دراساته وبحوثه باللغة الفرنسية. وفي السبعينات بعد وفاته بأعوام درست لمدة عامين المصطلحات الحقوقية والقانونية وتقدمت إلى امتحان ترجمان محلف عام 1974 ونجحت. وبذا كنت أول امرأة ترجمان محلف في سوريا».


و عن ظروف دوخلها إلى القطاع المصرفي تقول: «بعد وفاة زوجي عملت في أحد المصارف. وقبل التحاقي بالعمل طلبت كتبا من فرنسا عن العمليات المصرفية وقرأتها جميعها لأكون مؤهلة، ولكن بعد مضي عام ومع صدور قانون التأميم فقدت وظيفتي. عملت بعدها مع وزارة الإعلام في قسم ترجمة التقارير الداخلية. بعد مضي عام رفضوا تثبيتي إن لم أتنازل عن راتب تقاعد المرحوم. وهكذا انتقلت إلى صحيفة تشرين التي تأسست حديثا وعملت لمدة عام في قسم الترجمة وقدمت استقالتي احتجاجا على حجب اسمي عن المواضيع والحوارات التي ترجمتها.

عملت بعد ذلك في السفارة البولونية لمدة خمس سنوات. دخلت بوظيفة سكرتيرة وخرجت كمساعد للملحق الثقافي. وتنقلت بين العديد من الوظائف الأخرى».


اختزال زمن الأوجاع


قالت عن حصيلة تجربتها كإنسانة وامرأة وأم وأرملة وعاملة، «لا أستطيع كتابة سيرة حياتي.. لا طاقة لي على استعادة درب الآلام.. كان من الصعب على المرأة في الخمسينات دخول مجالات العمل خارج إطار التدريس. كنت أريد تربية أبنائي بنفسي دون الاعتماد على الغير. عملت في عدة مجالات، وكل مجال فتح لي بابا على الأدب والفكر.


«الكتابة جزء مني وكان الليل زمني الخاص الذي كنت أكتب فيه دراساتي وبحوثي وانطباعاتي. كنت أعمل ما يقارب من 18 ساعة في اليوم. في البداية اعترضت العائلة على فكرة عملي، ولكن مع إصراري على إنشاء أولادي في بيت مستقل صونا لكرامتهم بدأت رحلتي».


كانت تجربتها الشخصية دافعا لأن تقدم لاحقا دراسات عن خمسة نساء سوريات كان لهن دورا رياديا في مجتمعهن، ونجحن في تمهيد الطريق أمام الأجيال اللاحقة وإن دفعن الثمن من حياتهن.


ومثال على ذلك عادلة بيهم الجزائرية التي أسست أول مدرسة أهلية غير حكومية وغير مرتبطة بدين أو هيئة في دمشق، وهي مدرسة (دوحة الأدب)، ولا زالت المدرسة قائمة حتى يومنا هذا.


والطبيبة لوريس ماهر، التي تعتبر أول من دخلت كلية الطب في الثلاثينات. وأمضت عاما كاملا وهي تسعى لقبولها، وكانت المرأة الوحيدة بجانب سبعة طلاب. وكانت تجلس في كرسي وحدها بمعزل عن الباقي.


والمناضلة نازك العابد تعتبر أول شابة دخلت الجيش حيث استشهد يوسف العظمة بين يديها ، والكاتبة ماريانا مراش الحلبية التي أسست أول صالون أدبي في سوريا عام 1865، والدكتورة مرسيل عبسي وهي أول سورية دخلت جامعة السوربون في باريس وحصلت على درجة دكتوراه.


كما جذب الكاتبة مهاة خلال عملها مع البولونيين في السفارة، نهجهم ونظامهم فتعلمت البولونية كما علمتهم اللغة العربية، ونشرت كتابها عن مبدعيهم من علماء وفنانين «عبقريات ورؤى».


وقالت، «كنت أقرأ عن نضالهم وعذاباتهم بعد فقدانهم خمس شعبهم في الحرب العالمية الثانية، وأقوم في ذهني بمقاربة بينهم وبين الشعب الفلسطيني ونضاله»، وهنا تضحك وتقول، «لا أعرف لم كتب لي الله أن أعيش مع كل المتألمين».


بين الماضي والحاضر

«أديبات الماضي نحتن الصخر وحققن النجاح لهن وللأجيال القادمة من بعدهن، وكن مثلا أعلى لنا. أما الجيل الحالي من الكاتبات فيمكن تقييمهن من مستوى الأدب الحالي، فالدافع للكتابة حاليا حب الظهور والشهرة. كُثر هم، من يستسهلون الأدب ولا يملكون نفحة الكتابة أو الرصيد الإنساني في الأصل. الأدلة كثيرة، بت غير قادرة على إكمال قراءة أية افتتاحية في المطبوعات التي تصدر» قالت بخيبة أمل. وتابعت «دور الكاتبة العربية ضروري وكبير في تطوير المجتمع وإصلاحه وبحد أدنى الحفاظ على الشعور النقي فيه».

وقالت فيما يخص كتابة الوجدانيات التي فقدت مكانتها في عالم الأدب والتي لم تعد تحظ بمكانة أو أهمية، «تعتبر الوجدانيات المكتوبة بمشاعر نقية ولغة سليمة ومضمون تثقيفي أحد منابر الأدب العربي. هذه الكتابة تحتاج لإنسان. ترى أين الإنسان في زمننا الحالي. لست ضد الحداثة، لكن الحداثة لا تعني تدمير التراث؟!».

الكاتبة في سطور

* ولدت مهاة فرح الخوري في دمشق عام 1930


* قلدت العديد من الأوسمة من عدة بلدان منها، وسام الاستحقاق الثقافي البولوني عام 1973، ووسام السعف الأكاديمي بدرجة فارس من الحكومة الفرنسية عام 1994.
* انتخبت سيدة العام بموجب قرار المعهد الأميركي المتخصص في رصد سيرة الأشخاص الذين يؤدون أعمالا متميزة ورائدة لصالح بلادهم وحياة الإنسان عام 1997.

* عضو في المجلس الاستشاري لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2007

* عضو في هيئة الأمانة العامة الأهلية السورية لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية

* شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية.

رشا المالح - البيان